تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

قال البخاري : حدثنا حفص بن عمر{[8103]} حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله [ عز وجل ]{[8104]} { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }

حدثنا محمد بن يوسف ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادع فلانا " فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال : " اكتب : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " وخَلْف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، أنا ضرير فنزلت مكانها : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ }{[8105]}

وقال البخاري أيضا : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كَيْسان ، عن ابن شهاب ، حدثني سهل بن سعد الساعدي : أنه رأى مَروان بن الحكم في المسجد ، قال : فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عَلَيّ : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " . فجاءه ابن أم مكتوم ، وهو يمليها عليَّ ، قال : يا رسول الله ، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى - فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفَخِذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن تُرَض{[8106]} فخذي ، ثم سري عنه ، فأنزل الله : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }

انفرد به البخاري{[8107]} دون مسلم ، وقد روي من وجه آخر عن زيد فقال الإمام أحمد :

حدثنا سليمان بن داود ، أنبأنا عبد الرحمن بن{[8108]} أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثابت : إني قاعد إلى جنب رسول الله{[8109]} صلى الله عليه وسلم ، إذ أُوحِي إليه ، قال : وغشيته السكينة ، قال : فوقع{[8110]} فخذه على فخذي حين غشيته السكينة . قال زيد : فلا والله ما وجدت شيئًا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سري عنه فقال : " اكتب يا زيد " . فأخذت كتفا فقال : " اكتب : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ } إلى قوله{[8111]} { أَجْرًا عَظِيمًا } فكتب{[8112]} ذاك في كتف ، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله ، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى ، وأشباه ذلك ؟ قال زيد : فوالله ما مضى{[8113]} كلامه - أو ما هو إلا أن قضى كلامه - حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عنه فقال : " اقرأ " . فقرأت عليه : " لا يستوِي القاعدون من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ " {[8114]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } قال زيد : فألحقتها ، فوالله لكأني أنظر إلى مُلْحَقها عند صدع كان في الكتف .

ورواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن أبيه ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، به نحوه{[8115]} .

وقال عبد الرزاق : أنبأنا{[8116]} معمر ، عن الزهري ، عن قَبيصة بن{[8117]} ذُؤَيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " فجاء{[8118]} عبد الله ابن أم مكتوم فقال : يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى ، قد ذهب بصري . قال زيد : فثقلت فَخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، حتى خشيت أن ترضها{[8119]} ثم سُرِّي عنه ، ثم قال : " اكتب : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }

ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير{[8120]} وقال عبد الرزاق : أخبرني ابن جُرَيْج ، أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجَزري{[8121]} - أن مِقْسما مولى عبد الله بن الحارث - أخبره أن ابن عباس أخبره : لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر ، والخارجون إلى بدر .

انفرد به البخاري{[8122]} دون مسلم . وقد رواه الترمذي من طريق حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عبد الكريم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس قال : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضر عن بدر ، والخارجون إلى بدر ، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم : إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة ؟ فنزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة ، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } درجات منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر .

هذا لفظ الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . {[8123]}

فقوله [ تعالى ]{[8124]} { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } كان مطلقا ، فلما نزل بوحي سريع : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } صار{[8125]} ذلك مخرجا لذوي الأعذار{[8126]} المبيحة لترك الجهاد - من الْعَمَى والعَرَج والمرض - عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم .

ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين ، قال ابن عباس : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصحيح عند البخاري من طريق زهير بن معاوية ، عن حُمَيْد ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم من مَسِير ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا : وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال : " نعم حبسهم العذر " .

وهكذا رواه الإمام أحمد عن محمد بن أبي عَدِيّ عن حُمَيد ، عن أنس ، به{[8127]} وعلقه البخاري مجزوما . ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرًا ، ولا أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه " . قالوا : يا رسول الله ، وكيف{[8128]} يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : " حبسهم العذر " .

لفظ أبي داود{[8129]} وفي هذا المعنى قال الشاعر :

يا راحلين إلى البَيت العتيق لَقَدْ *** سرْتُم جُسُوما وسرْنا نحنُ أرواحا

إنَّا أقَمنا على عُذْرٍ وعَنْ قَدَرٍ *** ومَنْ أقامَ على عذْرٍ فقد راحا

وقوله : { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أي : الجنة والجزاء الجزيل . وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية .

ثم قال تعالى : { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات ، في غرف الجِنَان{[8130]} العاليات ، ومغفرة الذنوب والزلات ، وحلول الرحمة والبركات ، إحسانا منه وتكريما ؛ ولهذا قال تعالى : { دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }


[8103]:في أ: "عمرو".
[8104]:زيادة من ر، أ.
[8105]:صحيح البخاري برقم (4593) ورقم (4594).
[8106]:في ر: "يرض".
[8107]:صحيح البخاري برقم (4592).
[8108]:في ر، أ: "عن".
[8109]:في أ: "النبي".
[8110]:في أ: "فرفع".
[8111]:في ر، أ: "الآية كلها إلى قوله".
[8112]:في أ: "فكتب".
[8113]:في ر، أ: "قضى".
[8114]:في ر: "والمجاهدين".
[8115]:المسند (5/191) وسنن أبي داود برقم (2507).
[8116]:في أ: "أخبرنا".
[8117]:في ر: "عن".
[8118]:في أ: "فجاءه".
[8119]:في أ: "يرضها".
[8120]:تفسير عبد الرزاق (1/164) وتفسير الطبري (9/91).
[8121]:في أ: "الجهزي".
[8122]:تفسير عبد الرزاق (1/165) وصحيح البخاري برقم (4595).
[8123]:سنن الترمذي برقم (3032).
[8124]:زيادة من ر، أ.
[8125]:في أ: "كان".
[8126]:في أ: "الأضرار".
[8127]:صحيح البخاري برقم (2838) والمسند (3/103).
[8128]:في ر: "قالوا: وكيف يا رسول الله".
[8129]:صحيح البخاري برقم (2839) وسنن أبي داود برقم (2508).
[8130]:في أ: "الجنات".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

في قوله : { لا يستوي } إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد ، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، و { القاعدون } عبارة عن المتخلفين ، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة ، «غيرُ أولي الضرر » برفع الراء من غير ، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غيرِ » بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه ، كما هي عنده صفة في قوله تعالى : { غير المغضوب } [ الفاتحة : 7 ] بجر غير صفة ، ومثله قول لبيد : [ الرمل ]

وَإذَا جُوزِيتَ قِرْضاً فاجْزِهِ *** إنَّما يُجْزَى الْفَتى غَيْرَ الْجَمَلْ{[4219]}

قال المؤلف : كذا ذكره أبو علي ، ويروى ليس الجمل ، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين ، قال أبو الحسن : ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة ، قال الزجّاج : يجوز أيضاً في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء ، كأنه قال : «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر » فإنهم يساوون المجاهدين .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا مردود ، لأن { أولي الضرر } لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، قال : ويجوز في قراءة نصب الراء أن يكون على الحال ، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين ، وروي من غير طريق أن الآية نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون } فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها ، فقال : يا رسول الله هل من رخصة ؟ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك { غير أولي الضرر } قال الفلقان بن عاصم{[4220]} كنا قعوداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه ، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله ، وكنا نعرف ذلك في وجهه ، فلما فرغ قال للكاتب : اكتب { لا يستوي القاعدونَ من المؤمنين والمجاهدون } إلى آخر الآية . قال : فقام الأعمى ، فقال : يا رسول الله ما ذنبنا ؟ قال : فأنزل الله على رسوله ، فقلنا للأعمى : إنه ينزل عليه ، قال : فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائماً مكانه يقول : أتوب الى رسول الله حتى فرغ رسول الله ، فقال الكاتب : اكتب { غير أولي الضرر } وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . قاله ابن عباس وغيره . وقوله تعالى { بأموالهم وأنفسهم } هي الغاية في كمال الجهاد . ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر . قال بعض العلماء : هم أعظم أجراً من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها{[4221]} .

واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال : إن الغنى أفضل من الفقر ، وإن متعلقه بها لبين . وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة » ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان ، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالاً ما قطعنا وادياً ولا سلكنا جبلاً ولا طريقاً إلا وهم معنا حبسهم العذر »{[4222]} قال ابن جريج . والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات » هو على القاعدين من غير أهل العذر ، و { الحسنى } الجنة ، وهي التي وُعدها المؤمنون ، وكذلك قال السدي وغيره .


[4219]:- القرض: ما تعطيه غيرك من مال على أن يرده إليك، وما يقدم من عمل يلتمس عليه الجزاء. والفتى: السيد الكريم، والجمل هنا: الجاهل، أو لعل "لبيدا" أراد أن الذي يعني بمقارضة المعروف هو الإنسان لا الحيوان، ورواية الديوان: ="ليس الجمل"، ومعنى البيت: إذا قدم إليك معروف فرده بمثله، والبيت من قصيدة يتحدث فيها "لبيد" عن مآثره، ويأسى لفقد أخيه "أربد"، ومطلعها: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل
[4220]:- الجرمي الصحابي.
[4221]:- الصوائف: جمع صائفة، قال الجوهري: وصائفة القوم: ميرتهم في الصيف. (اللسان)
[4222]:- رواه البخاري عن أنس بن مالك في غزوة تبوك، مع اختلاف يسير في ترتيب الألفاظ عن هنا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

ولمّا لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمّق في الغاية من الجهاد ، عقَّب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيْلا يكون ذلك اللومُ موهِماً انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم ، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعاً لليأس من الرحمة عن أنفُس المسلمين .

يقول العرب « لا يستوي وليس سواءً » بمعنى أنّ أحد المذكورين أفضل من الآخر . ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالّة على تعيين المفضّل لأنّ من شأنه أن يكون أفضل . قال السموأل أو غيره :

فليس سواءً عالم وجهول

وقال تعالى : { ليسوا سواء } [ آل عمران : 113 ] ، وقد يُتبعونه بما يصرّح بوجه نفي السوائية : إمّا لخفائه كقوله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } [ الحديد : 10 ] ، وقد يكون التصريح لمجرّد التأكيد كقوله : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } [ الحشر : 20 ] . وإذ قد كان وجه التفاضل معلوماً في أكثر مواقع أمْثال هذا التركيب ، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية ، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه وزُهده فيما هو خير مع المكنة منه ، وكذلك هو هنا لظهور أنّ القَاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين ، ولا في ثوابه على ذلك ، فتعيّن التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم . وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله : { غيرَ أولي الضرر } كيلا يحسِبَ أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيَخرجوا مع المسلمين ، فيكلفّوهم مؤونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى ، أو يظنّوا أنّهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم ، زيادة على انكسارها بعجزهم ، ولأنّ في استثنائهم إنصافاً لهم وعذراً بأنّهم لو كانوا قادرين لما قعدوا ، فذلك الظنّ بالمؤمن ، ولو كان المقصود صريحَ المعنى لما كان للاستثناء موقع . فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود ، وله موقع من البلاغة لايضاع ، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلومات في سياق الكلام فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ . ويدلّ لهذا ما في « الصحيحين » ، عن زيد بن ثابت . أنّه قال : نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سريّ عنه فقال : اكتُب ، فكتبت في كَتف ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدُون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) ، وخَلْفَ النبي ابنُ أمّ مكتوم فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، فنزلت مكانها { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرَ أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } الآية . فابن أمّ مكتوم فَهم المقصود من نفي الاستواء فظنّ أنّ التعريض يشمله وأمثاله ، فإنّه من القاعدين ، ولأجل هذا الظنّ عُدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام ، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء ، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي ، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة ، ولكنها معوّضته بنظيره لأنّ السامعين أصناف كثيرة .

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وخلف : { غيرَ } بنصب الراء على الحال من { القاعدون } ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب بالرفع على النعت ل { القاعدون } .

وجاز في « غير » الرفعُ على النعت ، والنصب على الحال ، لأنّ ( القاعدون ) تعريفهُ للجنس فيجوز فيه مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى .

والضرر : المرض والعاهة من عمّى أو عرج أو زَمانةٍ ، لأنّ هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها ، وأشهر استعماله في العمى ، ولذلك يقال للأعمى : ضرير ، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن ، وأحسب أنّ المراد في هذه الآية خصوص العمى وأنّ غيره مقيس عليه .

والضرر مصدر ضرِر بكسر الراء مثل مرض ، وهذه الزنة تجيء في العاهات ونحوها ، مثل عَمي وعَرج وحَصر ، ومصدرها مفتوح العين مثل العَرج ، ولأجل خفّته بفتح العين امتنع إدغام المثلين فيه ، فقيل : ضَرَر بالفكّ ، وبخلاف الضُرّ الذي هو مصدر ضَرّه فهو واجب الإدغام إذ لا موجب للفكّ . ولا نعرف في كلام العرب إطلاق الضرر على غير العَاهات الضارّة ؛ وأمّا ما روي من حديث " لا ضَرر ولا ضِرار " فهو نادرٌ أوْ جرى على الإتْباع والمزاوجة لاقترانه بلفظ ضِرَار وهو مفكّك . وزعم الجوهري أنّ ضرر اسم مصدر الضرّ ، وفيه نظر ؛ ولم يحفظ عن غيره ولا شاهد عليه .

وقوله : { بأموالهم وأنفسهم } لأنّ الجهاد يقتضي الأمرين : بذل النفس وبذل المال ، إلاّ أنّ الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم يتفق شيئاً ، بل ولو كان كَلاًّ على المؤمنين ، كما أنّ من بَذل المال لإعانة الغزاة ، ولم يجاهد بنفسه ، لا يسمّى مجاهداً وإن كان له أجر عظيم ، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنّى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين ، له فضل عظيم ، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين .

وجملة : { فضّل الله المجاهدين } بيان لجملة : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } .

وحقيقة الدرجة أنّها جزء من مكان يكون أعلى من جزء أخرَ متّصل به ، بحيث تتخطّى القدَم إليه بارتقاء من المكان الذي كانت عليه بصعود ، وذلك مثل درجة العُلَيّة ودرجة السلَّم .

والدرجة هنا مستعارة للعلوّ المعنوي كما في قوله تعالى : { وللرجال عليهنّ درجة } [ البقرة : 228 ] والعلوّ المراد هنا علوّ الفضل ووفرة الأجر .

وجيء ب ( درجة ) بصيغة الإفراد ، وليس إفرادُها للوحدة ، لأنّ درجة هنا جنس معنوي لا أفراد له ، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها تأكيداً لها بصيغة الجمع بقوله : { درَجاتٍ منه } لأنّ الجمع أقوى من المفرد .

وتنوين { درجة } للتعظيم . وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي { درجات منه } .

وانتصب { درجة } بالنيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع في فعل { فَضْل } إذ الدرجة هنا زيادة في معنى الفضل ، فالتقدير : فَضْل الله المجاهدين فَضْلاً هو درجة ، أي درجةً فضلاً .

وجملة { وكُلاً وعد الله الحسنى } معترضة . وتنوين « كلاً » تنوين عوض عن مضاف إليه ، والتقدير : وكلُّ المجاهدين والقاعدين .

وعُطف { وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً } على جملة { فضّل الله المجاهدين } ، وإن كان معنى الجملتين واحداً باعتبار ما في الجملة الثانية من زيادة { أجراً عظيماً } فبذلك غايرت الجملةُ المعطوفة الجملةَ المعطوفَ عليها مغايرة سوّغت العطف ، مع ما في إعادة معظم ألفاظها من توكيد لها .

والمراد بقوله : { المجاهدين } المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فاستُغني عن ذكر القيد بما تقدّم من ذكره في نظيره السابق . وانتصَب { أجراً عظيماً } على النيابة عن المفعول المطلق المبيِّن للنوع لأنّ الأجر هو ذلك التفضيل ، ووصف بأنّه عظيم .