{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال الإمام أبو جعفر بن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت : " هذا دائم دوامَ السموات والأرض " ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليلُ والنهار ، وما سمر ابنا سَمير ، وما لألأت العُفْر{[14917]} بأذنابها . يعنون بذلك كلمة : " أبدا " ، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم ، فقال : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } .
قلت : ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض : الجنس ؛ لأنه لا بدّ في عالم الآخرة من سموات وأرض ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [ إبراهيم : 48 ] ؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : تبدل سماء غير{[14918]} هذه السماء ، وأرض غير هذه الأرض ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قوله : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : لكل جنة سماء وأرض .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما دامت الأرض أرضًا ، والسماء سماءً .
وقوله : { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } كقوله تعالى : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 128 ] .
وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء ، على أقوال كثيرة ، حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه " زاد المسير " {[14919]} وغيره من علماء التفسير ، ونقل كثيرًا منها الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، في كتابه{[14920]} واختار هو ما نقله عن خالد بن مَعْدَان ، والضحاك ، وقتادة ، وأبي سِنَان ، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضًا : أن الاستثناء عائد على العُصاة من أهل التوحيد ، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، حين يشفعون في أصحاب الكبائر ، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين ، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ، وقال يوما من الدهر : لا إله إلا الله . كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس ، وجابر ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وغيرهم من الصحابة{[14921]} ، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها . وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة . وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن مسعود{[14922]} ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وأبي سعيد ، من الصحابة . وعن أبي مِجْلَز ، والشعبي ، وغيرهما من التابعين . وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة - أقوال غريبة . وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير ، عن أبي أمامة صُدَىّ بن عَجْلان الباهلي ، ولكن سنده ضعيف ، والله أعلم .
وقال قتادة : الله أعلم بثنياه .
وقال السدي : هي منسوخة بقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [ النساء : 57 ] .
وأما قوله { ما دامت السماوات والأرض } فقيل معناه أن الله تعالى يبدل السماوات والأرض يوم القيامة ، ويجعل الأرض مكاناً لجهنم والسماء مكاناً للجنة ، ويتأبد ذلك ، فقرنت الآية خلود هؤلاء ببقاء هذه ؛ ويروى عن ابن عباس أنه قال : إن الله خلق السماوات والأرض من نور العرش ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة ، فلهما ثم بقاء دائم ، وقيل معنى قوله { ما دامت السماوات والأرض } العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب ، وذلك أن من فصيح كلامها إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول : لا أفعل كذا وكذا مدى الدهر ، وما ناح الحمام و { ما دامت السماوات والأرض } ، ونحو هذا مما يريدون به طولاً من غير نهاية ، فأفهمهم الله تعالى تخليد الكفرة بذلك وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض .
وأما قوله : { إلا ما شاء ربك } فقيل فيه : إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام ، فهو على نحو قوله : { لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - آمنين }{[6514]} استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قال : إن شاء الله ، فليس يحتاج إلى أن يوصف بمتصل ولا بمنقطع ، ويؤيد هذا قوله : { عطاء غير مجذوذ } وقيل : هو استثناء من طول المدة ، وذلك على ما روي من أن جهنم تخرب ويعدم أهلها وتغلق أبوابها{[6515]} فهم - على هذا - يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مختل ، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين ، وهو الذي يسمى جهنم ، وسمي الكل به تجوزاً .
وقيل : إنما استثنى ما يلطف الله تعالى به للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار ، فيجيء قوله : { إلا ما شاء ربك } أي لقوم ما ، وهذا قول قتادة والضحاك وأبي سنان وغيرهم ، وعلى هذا فيكون قوله : { فأما الذين شقوا } عاماً في الكفرة والعصاة - كما قدمنا - ويكون الاستثناء من { خالدين }{[6516]} ، وقيل : { إلا } بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاء الله زائداً على ذلك ، ونحو هذا قول الشاعر : [ الوافر ]
وكل أخ مفارقه أخوه*** لعمر أبيك إلا الفرقدان{[6517]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا البيت يصح الاستشهاد به على معتقدنا في فناء الفرقدين وغيرهما من العالم ، وأما إن كان قائله من دهرية العرب{[6518]} فلا حجة فيه ، إذ يرى ذلك مؤبداً فأجرى «إلا » على بابها .
وقيل { إلا } في هذه الآية بمعنى سوى ، والاستثناء منقطع ، كما تقول : لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك ، بمعنى سوى تلك ، فكأنه قال : { خالدين فيها ما دامت المساوات والأرض } سوى ما شاء الله زائداً على ذلك ، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد : { عطاء غير مجذوذ } ، وهذا قول الفراء ، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع ب «سوى » ؛ وسيبويه يقدره ب «لكن » ؛ وقيل سوى ما أعده لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير ونحوه ، وقيل استثناء من مدة السماوات : المدة التي فرطت لهم في الحياة الدنيا ؛ وقيل في البرزخ بين الدنيا والآخرة ؛ وقيل : في المسافات التي بينهم في دخول النار ، إذ دخولهم إنما هو زمراً بعد زمر ؛ وقيل : الاستثناء من قوله : { ففي النار } كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير عن ذلك ، وهذا قول رواه أبو نضرة عن جابر أو عن أبي سعيد الخدري{[6519]} .
ثم أخبر منبهاً على قدرة الله تعالى بقوله : { إن ربك فعال لما يريد } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.