يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمة واحدة ، من إيمان أو كفران{[14991]} كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [ يونس : 99 ] .
وقوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .
قال{[14992]} عكرمة : { مُخْتَلِفِينَ } في الهدى{[14993]} . وقال الحسن البصري : { مُخْتَلِفِينَ } في الرزق ، يُسخّر بعضهم بعضا ، والمشهورُ الصحيح الأول .
وقوله : { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : إلا المرحومين من أتباع الرسل ، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين{[14994]} . أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه ، ونصروه ووازروه ، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنهم الفرقة الناجية ، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن ، من طرق يشد بعضها بعضا : " إن اليهود افترقت على إحدى{[14995]} وسبعين فرقة ، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي{[14996]} على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة واحدة " . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .
رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة{[14997]} وقال عطاء : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } يعني : اليهود والنصارى والمجوس { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } يعني : الحنَيفيَّة .
وقال قتادة : أهلُ رحمة الله أهل الجماعة ، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم ، وأهل معصيته أهل فرقة ، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم .
وقوله : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال الحسن البصري - في رواية عنه - : وللاختلاف خَلَقهم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : خلقهم فريقين ، كقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] .
وقيل : للرحمة خلقهم . قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن طاوس ؛ أن رجلين اختصما إليه فأكثرا{[14998]} فقال طاوس : اختلفتما فأكثرتما{[14999]} ! فقال أحد الرجلين : لذلك خلقنا . فقال طاوس : كذبت . فقال : أليس الله يقول : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : لم يخلقهم ليختلفوا ، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة . كما قال الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب . وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة . ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
وقيل : بل المراد : وللرحمة والاختلاف خلقهم ، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : الناس مختلفون على أديان شتى ، { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } فمن رحم ربك غير مختلف . قيل له : فلذلك خلقهم ؟ [ قال ]{[15000]} خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه .
وكذا{[15001]} قال عطاء بن أبي رَبَاح ، والأعمش .
وقال ابن وَهْب : سألت مالكا عن قوله تعالى : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : فريق في الجنة وفريق في السعير .
وقد اختار هذا القول ابن جرير ، وأبو عبيدة{[15002]} والفراء .
وعن مالك فيما رويناه عنه في التفسير : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : للرحمة ، وقال قوم : للاختلاف .
وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره ، لعلمه التام وحكمته النافذة ، أن ممن{[15003]} خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس ، وله الحجة البالغة والحكمة التامة . وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضَعَفَةُ الناس وسَقطُهم ؟ وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين . فقال الله عز وجل للجنة ، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء . وقال للنار : أنت عذابي ، أنتقم بك ممن أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها . فأما الجنة فلا يزال فيها فضل ، حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة ، وأما النار فلا تزال تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع عليه ربّ العزة قَدمه ، فتقول : قَطْ قط ، وعزتك " {[15004]} .
وقوله : { ولذلك خلقهم } اختلف فيه المتأولون ، فقالت فرقة : ولشهود اليوم المشهود - المتقدم ذكره- خلقهم ، وقالت فرقة : ذلك إشارة إلى قوله - قبل - { فمنهم شقي وسعيد } [ هود : 105 ] أي لهذا خلقهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد ؛ وروى أشهب عن مالك أنه قال : ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير .
قال القاضي أبو محمد : فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين : الاختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري ، ويجيء - عليه - الضمير في { خلقهم } للصنفين ، وقال مجاهد وقتادة ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله : { إلا من رحم } ، أي وللرحمة خلق المرحومين ، قال الحسن ، وذلك إشارة إلى الاختلاف الذي في قوله : { ولا يزالون مختلفين } .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا بأن يقال : كيف خلقهم للاختلاف ؟ وهل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم ؟ فالوجه في الانفصال أن نقول : إن قاعدة الشرع أن الله عز وجل خلق خلقاً للسعادة وخلقاً للشقاوة ، ثم يسر كلاًّ لما خلق له ، وهذا نص في الحديث الصحيح{[6540]} وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو أمارة الشقاوة وبه علق العقاب ، فيصح أن يحمل قوله هنا{[6541]} وللاختلاف خلقهم : أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من الشقاوة . ويصح أن يجعل اللام في قوله : { ولذلك } لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك ، وإن لم يقصد بهم الاختلاف .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى قوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }{[6542]} أي لآمرهم بالعبادة ، وأوجبها عليهم{[6543]} ، فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه .
وقوله ، { وتمت كلمة ربك } أي نفذ قضاؤه وحق أمره ، واللام في { لأملأن } لام قسم إذ «الكلمة » تتضمن القسم{[6544]} . و «الجن » جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر و «الهاء » في { بالجنة } للمبالغة . وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه{[6545]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.