يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } [ الإسراء : 55 ] وقال هاهنا : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } يعني : موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم وكذلك آدم ، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السموات{[4264]} بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل .
فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه : لا والذي اصطفى موسى
على العالمين . فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال : أي خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم ! فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ فلا تفضلوني على الأنبياء " {[4265]} وفي رواية : " لا تفضلوا بين الأنبياء " .
أحدها : أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر .
الثاني : أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع .
الثالث : أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر .
الرابع : لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية .
الخامس : ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به .
وقوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } أي : الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به ، من أنه عبد الله ورسوله إليهم { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } يعني : أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أي : بل كل ذلك عن قضاء الله وقدره ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ }
{ تلك } رفع بالابتداء ، و { الرسل } خبره ، ويجوز أن يكون { الرسل } عطف بيان و { فضلنا } الخبر ، و { تلك } إشارة إلى جماعة مؤنثة اللفظ ، ونص الله في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض( {[2410]} ) وذلك في الجملة دون تعيين مفضول . وهكذا هي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . فإنه قال : «أنا سيد ولد آدم »( {[2411]} ) ، وقال : «لا تفضلوني على موسى »( {[2412]} ) ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »( {[2413]} ) ، وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول ، لأن يونس عليه السلام كان شاباً( {[2414]} ) وتفسخ( {[2415]} ) تحت أعباء النبوءة ، فإذا كان هذا التوقف فيه لمحمد وإبراهيم ونوح فغيره أحرى ، فربط الباب أن التفضيل فيهم على غير تعيين المفضول ، وقد قال أبو هريرة : خير ولد آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وهم أولو العزم( {[2416]} ) والمكلم موسى صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال نعم نبي مكلّم( {[2417]} ) ، وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة ، فعلى هذا تبقى خاصة موسى ، وقول تعالى : { ورفع بعضهم درجات } قال مجاهد وغيره : هي إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه بعث إلى الناس كافة وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد قبله( {[2418]} ) ، وهو أعظم الناس أمة ، وختم الله به النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله ، ومن معجزاته وباهر آياته ، ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره( {[2419]} ) ممن عظمت آياته ويكون الكلام تأكيداً للأول ، ويحتمل أن يريد رفع إدريس المكان العليّ( {[2420]} ) ومراتب الأنبياء في السماء( {[2421]} ) فتكون الدرجات في المسافة ويبقى التفضيل مذكوراً في صدر الآية فقط ، وبينات عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الطير من الطين ، و «روح القدس » جبريل عليه السلام ، وقد تقدم ما قال العلماء فيه( {[2422]} ) .
{ ولَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
ظاهر اللفظ في قولهم : من بعدهم يعطي أنه أراد القوم الذين جاؤوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك المعنى ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي فلف الكلام لفاً يفهمه السامع ، وهذا كما تقول : اشتريت خيلاً ، ثم بعتها ، فجائزة لك هذه العبارة وأنت اشتريت فرساً ثم بعته ، ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغياً وحسداً ، وعلى حطام الدنيا ، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان . ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك . الفعال لما يريد ، فاقتتلوا بأن قتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر ، وذلك هو دفع الله الناس بعضهم ببعض .