وقوله [ تعالى ]{[19929]} : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } : يخبر تعالى أن الله جَعَل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، أي : أرسله رحمة لهم كلّهم ، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ ، سَعد في الدنيا والآخرة ، ومن رَدّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ{[19930]} الْقَرَارُ } [ إبراهيم : 28 ، 29 ] ، وقال الله تعالى في صفة القرآن : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] .
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا مروان الفَزَاريّ ، عن يزيد بن كَيْسَان ، عن ابن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ادع على المشركين ، قال : " إني لم أبعَثْ لَعَّانًا ، وإنما بُعثْتُ رحمة " . انفرد بإخراجه مسلم{[19931]} .
وفي الحديث الآخر : " إنما أنا رحمة مهداة " . رواه عبد الله بن أبي عرابة ، وغيره ، عن وَكِيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا{[19932]} قال إبراهيم الحربي : وقد رواه غيره عن وكيع ، فلم يذكر أبا هريرة{[19933]} . وكذا قال البخاري ، وقد سئل عن هذا الحديث ، فقال : كان عند حفص بن غياث مرسلا .
قال الحافظ ابن عساكر : وقد رواه مالك بن سُعَير بن الْخِمْس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا{[19934]} . ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم ، كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، عن أبي أسامة ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس{[19935]} بن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا رحمة مهداة " .
ثم أورده من طريق الصَّلْت بن مسعود ، عن سفيان بن عيينة ، عن مِسْعَر{[19936]} ، عن سعيد بن خالد ، عن رجل ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله بعثني رحمة مهداة ، بُعثْتُ برفع قوم وخفض آخرين " {[19937]} .
قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان ، حدثنا أحمد بن صالح قال : وجدت كتابًا بالمدينة عن عبد العزيز الدّراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن صالح التمار ، عن ابن [ شهاب ]{[19938]} عن محمد بن جُبَير بن مطعم ، عن أبيه قال : قال أبو جهل حين قدم [ مكة ]{[19939]} منصرفة عن حَمْزَة : يا معشر قريش ، إن محمدًا نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا ، فاحذروا أن تمروا طريقَه أو تقاربوه{[19940]} ، فإنه كالأسد الضاري ؛ إنه حَنِق عليكم ؛ لأنكم نفيتموه نفي القِرْدَان عن المناسم{[19941]} والله إن له لَسحْرَةً ، ما رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم الشيطان ، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قَيلَةَ - يعني : الأوس والخزرج - لهو عدو استعان بعدو ، فقال له مطعم بن عدي : يا أبا الحكم ، والله ما رأيتُ أحدًا أصدقَ لسانًا ، ولا أصدق موعدًا ، من أخيكم الذي طردتم ، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه . قال [ أبو سفيان ]{[19942]} بن الحارث : كونوا أشدّ ما كنتم عليه ، إن{[19943]} ابني قيلَةَ إن ظفَرُوا بكم لم يرْقُبوا فيكم إلا ولا ذمة ، وإن أطعتموني ألجأتموهم خير كنابة ، أو تخرجوا محمدًا
من بين ظهرانيهم ، فيكون وحيدا مطرودا ، وأما [ ابنا قَيْلة فوالله ما هما ]{[19944]} وأهل [ دهلك ]{[19945]} في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم ، وقال :
سَأمْنَحُ جَانبًا منّي غَليظًا *** عَلَى مَا كَانَ مِنْ قُرب وَبُعْد
رجَالُ الخَزْرَجيَّة أهْلُ ذُل *** إذا مَا كَانَ هَزْل بَعْدَ جد .
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : " والذي نفسي بيده ، لأقتلنهم ولأصلبَنَّهم ولأهدينهم وهم كارهون ، إني رحمة بعثني الله ، ولا يَتَوفَّاني حتى يظهر الله دينه ، لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأحمد ، وأنا الماحي الذي يمحي الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " {[19946]} .
وقال أحمد بن صالح : أرجو أن يكون الحديث صحيحًا .
وقال الإمامُ أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثني عَمْرو بن قَيس ، عن عمرو بن أبي قُرّة الكِنْديّ قال : كان حُذيفةُ بالمدائن ، فكان يذكر أشياء قالها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء حذيفةُ إلى سَلْمان فقال سلمان : يا حذيفةَ ، إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [ كان يغضب فيقول ، ويرضى فيقول : لقد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[19947]} خطَب فقال : " أيما رجل من أمتي سَبَبتُه [ سَبَّةً ]{[19948]} في غَضَبي أو لعنته لعنةً ، فإنما أنا رجل من ولد آدم ، أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمةً للعالمين ، فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة " .
ورواه أبو داود ، عن أحمد بن يونس ، عن زائدة{[19949]} .
فإن قيل : فأيّ رحمة حصلت لمن كَفَر به ؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثنا إسحاق الأزرق ، عن المسعودي ، عن رجل يقال له : سعيد ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } قال : من آمن بالله واليوم الآخر ، كُتِبَ له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوِفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف{[19950]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث المسعودي ، عن أبي سعد - وهو سعيد بن المرزبان البقّال - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فذكره بنحوه ، والله أعلم .
وقد رواه أبو القاسمُ الطبراني عن عبدان بن أحمد ، عن عيسى بن يونس الرَمْلِي ، عن أيوب ابن سُوَيد ، عن المسعودي ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } قال : من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يتبعه عُوفِي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والقذف{[19951]} .
وقوله { إلا رحمة للعالمين } قالت فرقة عم العالمين وهو يريد من آمن فقط ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس برحمة على من كفر به ومات على الكفر ، وقالت فرقة «العالمون » عام ورحمته للمؤمنين بينة وهي للكافرين بأن الله تعالى رفع عن الأمم أن يصيبهم ما كان يصيب القرون قبلهم من أنواع العذاب المستأصلة كالطوفان وغيره .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل الكلام أن يكون معناه «وما أرسلنك للعالمين إلا رحمة » أي هو رحمة في نفسه وهذا بين أخذ من أخذ ، وأعرض عنه من أعرض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.