محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (107)

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } أي وما أرسلناك بهذه الحنفية والدين الفطري ، إلا حال كونك رحمة للخلق ؛ فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين . وفي جعله نفس الرحمة مبالغة جلية . وجوز كون { رحمة } مفعولا له . أي للرحمة ، فهو نبي الرحمة .

تنبيه :

قال الرازي : إنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا . أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم ، لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم . فبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب . فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب ، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام . ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق ، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار ، وكان التوفيق قرينا له . قال الله تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } إلى قوله تعالى : { وهو عليهم عمى } وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ، ونصروا ببركة دينه . انتهى .

وقد أشرت إلى وجه الرحمة في بعثته صلوات الله عليه ، في ( الشذرة ) التي جمعتها في سيرته الزكية ، في بيان افتقار الناس جميعا إلى رسالته ، فقلت : كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار ، ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار ، علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين ، وأكبر منة الله به على العالمين ، فقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل ، وإخافة للسبل ، وانتشار من الأهواء ، وتفرق من الملل ، ما بين مشبه لله بخلق ، وملحد في اسمه ، ومشير إلى غيره ، كفر بواح ، وشرك صراح ، وفساد عام ، وانتهاب للأموال والأرواح واغتصاب للحقوق ، وشن للغارات ، ووأد البنات وأكل للدماء والميتات ، وقطع للأرحام ، وإعلان بالسفاح ، وتحريف للكتب المنزلة ، واعتقاد لأضاليل المتكهنة ، وتأليه للأحبار والرهبان ، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور ، ظلمات بعضها فوق بعض ، وطامات طبقت أكناف الأرض ، استمرت الأمم على هذه الحال ، الأجيال الطوال ، حتى دعا داعي الفلاح ، وأذن الله تعالى بالإصلاح . فأحدث بعد ذلك أمرا ، وجعل بعد عسر يسرا . فإن النوائب إذا تناهت انتهت ، وإذا توالت تولت . وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولا ليعتقهم من أسر الأوثان ، ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان ، وينقذهم من النار والعار ، ويرفع عنهم الآصار ، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال ، ويرشدهم إلى صراط الحق . قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } وقال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } انتهى .