{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً } يجوز أن ينتصب «رَحْمَةً » مفعولاً له ، أي : لأجل الرحمة ، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة في{[29904]} أن جعله نفس الرحمة ، وإما على حذف مضاف أي : ذا رحمة ، أو بمعنى راحم{[29905]} . وفي الحديث : «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة »{[29906]} .
قوله : { لِلْعَالَمِينَ } يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «رَحْمَةً » أي : كائنة للعالمين . ويجوز أن يتعلق ب «أَرْسَلْنَاكَ » عند مَنْ يرى تعلق ما بعد قبلها جائز ، أو بمحذوف عند مَنْ لا يرى ذلك{[29907]} . هذا إذا لم يفرغ الفعل لما بعدها أما إذا فرغ فيجوز نحو : ما مررت إلا بزيد ، كذا قاله أبو حيان هنا{[29908]} . وفيه نظر من حيث إن هذا أيضاً مفرغ ، لأنّ المفرغ عبارة عما افتقر ما بعد إلا لما قبلها على جهة المعمولية له .
قال ابن عباس : قوله : { رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } عام في حق من آمن ومن لم يؤمن{[29909]} . اعلم أنه{[29910]} -عليه لسلام{[29911]}- كان رحمة في الدين والدنيا ، أما في الدين فلأنه -عليه السلام- بعث والناس في جاهلية وضلال ، وأهل الكتابين{[29912]} كانوا في حيرة في أمر دينهم لطول مدّتهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم ، فبعث الله{[29913]} محمداً حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب ، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام ، وميز الحلال والحرام ، فمن كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار ، قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } إلى قوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى }{[29914]} وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من الذل والقتل . فإن قيل : كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة المال ؟ فالجواب من وجوه :
الأول : إنما جاء بالسيف لمن أنكر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر ، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم ، وهو منتقم من العصاة . وقال : { وَنَزَّلْنَا{[29915]} مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً }{[29916]} ثم قد يكون سبباً للفساد .
الثاني : أنّ كل نبي من الأنبياء قبله إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق ، وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال الله تعالى{[29917]} : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }{[29918]} ولا يقال : أليس أنه قال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ }{[29919]} . وقال : { لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين }{[29920]} لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه .
الثالث : أنه -عليه السلام-{[29921]} كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }{[29922]} وقيل له -عليه السلام{[29923]}- : ادع على المشركين . فقال : «إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً » وقال في رواية حذيفة : «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ{[29924]} أغضب كما يغضب البشر ، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة إلى يوم القيامة »{[29925]} .
الرابع : قال عبد الرحمن بن يزيد{[29926]} : { إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } يعني المؤمنين خاصة{[29927]} .
فصل{[29928]}
قالت المعتزلة : لو كان تعالى أراد من الكافر الكفر ولم يرد منه القبول من الرسول ، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه ، وخلق ذلك فيهم ، ولم يخلقهم إلا لذلك كما يقول أهل السنة لوجب أن يكون إرساله نقمة{[29929]} وعذاباً عليهم لا رحمة ، وهو خلاف هذا النص ، ولا يقال : إن رسالته رحمة للكفار من حيث لم يجعل عذابهم في الدنيا كما عجل عذاب سائر الأمم ، لأنا{[29930]} نقول : إنّ كونه رحمة للجميع على حد واحد ، وما ذكرتموه في الكفار فهو حاصل للمؤمنين ، وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته -عليه السلام{[29931]}- لحصولها بعده ، بل كانت نعمهم في الدنيا قبل بعثته كحصولها بعده وأعظم ، لأن في بعثته نزل بهم الغم والخوف ، ثم أمر الجهاد الذي فيه أكبر همّ ، فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد .
والجواب أنْ نقول لما علم الله أن أبا لهب{[29932]} لم يؤمن ألبتة ، وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره بالإيمان أمراً يقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً ، وذلك محال ، فكان قد أمره بالمحال ، وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة ، فلم لا يجوز أن يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر ؟ ولأنّ قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازم ، وإن كانت صالحة للضدين توقف الترجيح على مرجح من قبل الله تعالى قطعاً للتسلسل . وحينئذ يعود الإلزام ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون رحمة للكفار تأخير عذاب الاستئصال عنهم ؟ وقولهم أولاً : لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين .
فالجواب : ليس في الآية أنه -عليه السلام-{[29933]} رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين ، فدعواكم بكون الوجه واحداً تحكم . وقولهم نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل . فالجواب : نعم ، ولكنه -عليه السلام{[29934]}- لكونه رحمة للمؤمنين لما بُعِثَ حصل الخوف للكفار من نزول العذاب ، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار .
فصل{[29935]}
تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة ، لأنّ الملائكة من العالمين ، فوجب أن يكون أفضل منهم . وأجيب بأنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ }{[29936]} وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين ، والرسول -عليه السلام-{[29937]} داخل في المؤمنين ، وكذا قوله تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي }{[29938]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.