اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (107)

وقوله :

{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً } يجوز أن ينتصب «رَحْمَةً » مفعولاً له ، أي : لأجل الرحمة ، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة في{[29904]} أن جعله نفس الرحمة ، وإما على حذف مضاف أي : ذا رحمة ، أو بمعنى راحم{[29905]} . وفي الحديث : «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة »{[29906]} .

قوله : { لِلْعَالَمِينَ } يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «رَحْمَةً » أي : كائنة للعالمين . ويجوز أن يتعلق ب «أَرْسَلْنَاكَ » عند مَنْ يرى تعلق ما بعد قبلها جائز ، أو بمحذوف عند مَنْ لا يرى ذلك{[29907]} . هذا إذا لم يفرغ الفعل لما بعدها أما إذا فرغ فيجوز نحو : ما مررت إلا بزيد ، كذا قاله أبو حيان هنا{[29908]} . وفيه نظر من حيث إن هذا أيضاً مفرغ ، لأنّ المفرغ عبارة عما افتقر ما بعد إلا لما قبلها على جهة المعمولية له .

فصل

قال ابن عباس : قوله : { رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } عام في حق من آمن ومن لم يؤمن{[29909]} . اعلم أنه{[29910]} -عليه لسلام{[29911]}- كان رحمة في الدين والدنيا ، أما في الدين فلأنه -عليه السلام- بعث والناس في جاهلية وضلال ، وأهل الكتابين{[29912]} كانوا في حيرة في أمر دينهم لطول مدّتهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم ، فبعث الله{[29913]} محمداً حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب ، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام ، وميز الحلال والحرام ، فمن كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار ، قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } إلى قوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى }{[29914]} وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من الذل والقتل . فإن قيل : كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة المال ؟ فالجواب من وجوه :

الأول : إنما جاء بالسيف لمن أنكر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر ، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم ، وهو منتقم من العصاة . وقال : { وَنَزَّلْنَا{[29915]} مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً }{[29916]} ثم قد يكون سبباً للفساد .

الثاني : أنّ كل نبي من الأنبياء قبله إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق ، وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال الله تعالى{[29917]} : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }{[29918]} ولا يقال : أليس أنه قال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ }{[29919]} . وقال : { لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين }{[29920]} لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه .

الثالث : أنه -عليه السلام-{[29921]} كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }{[29922]} وقيل له -عليه السلام{[29923]}- : ادع على المشركين . فقال : «إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً » وقال في رواية حذيفة : «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ{[29924]} أغضب كما يغضب البشر ، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة إلى يوم القيامة »{[29925]} .

الرابع : قال عبد الرحمن بن يزيد{[29926]} : { إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } يعني المؤمنين خاصة{[29927]} .

فصل{[29928]}

قالت المعتزلة : لو كان تعالى أراد من الكافر الكفر ولم يرد منه القبول من الرسول ، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه ، وخلق ذلك فيهم ، ولم يخلقهم إلا لذلك كما يقول أهل السنة لوجب أن يكون إرساله نقمة{[29929]} وعذاباً عليهم لا رحمة ، وهو خلاف هذا النص ، ولا يقال : إن رسالته رحمة للكفار من حيث لم يجعل عذابهم في الدنيا كما عجل عذاب سائر الأمم ، لأنا{[29930]} نقول : إنّ كونه رحمة للجميع على حد واحد ، وما ذكرتموه في الكفار فهو حاصل للمؤمنين ، وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته -عليه السلام{[29931]}- لحصولها بعده ، بل كانت نعمهم في الدنيا قبل بعثته كحصولها بعده وأعظم ، لأن في بعثته نزل بهم الغم والخوف ، ثم أمر الجهاد الذي فيه أكبر همّ ، فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد .

والجواب أنْ نقول لما علم الله أن أبا لهب{[29932]} لم يؤمن ألبتة ، وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره بالإيمان أمراً يقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً ، وذلك محال ، فكان قد أمره بالمحال ، وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة ، فلم لا يجوز أن يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر ؟ ولأنّ قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازم ، وإن كانت صالحة للضدين توقف الترجيح على مرجح من قبل الله تعالى قطعاً للتسلسل . وحينئذ يعود الإلزام ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون رحمة للكفار تأخير عذاب الاستئصال عنهم ؟ وقولهم أولاً : لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين .

فالجواب : ليس في الآية أنه -عليه السلام-{[29933]} رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين ، فدعواكم بكون الوجه واحداً تحكم . وقولهم نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل . فالجواب : نعم ، ولكنه -عليه السلام{[29934]}- لكونه رحمة للمؤمنين لما بُعِثَ حصل الخوف للكفار من نزول العذاب ، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار .

فصل{[29935]}

تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة ، لأنّ الملائكة من العالمين ، فوجب أن يكون أفضل منهم . وأجيب بأنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ }{[29936]} وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين ، والرسول -عليه السلام-{[29937]} داخل في المؤمنين ، وكذا قوله تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي }{[29938]} .


[29904]:في ب: و. وهو تحريف.
[29905]:انظر التبيان 2/929.
[29906]:أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة. الدر المنثور 4/342.
[29907]:وذلك أن الاستثناء في حكم جملة مستأنفة، لأنك إذا قلت: جاء القوم إلا زيدا، فكأنك قلت: جاء القوم وما منهم زيد، فمقتضى هذا أن لا يعمل ما بعد (إلا) فيما قبلها، ولا من قبلها فيما بعدها، فلا تقدم معمول تاليها عاليها، فلا يقال: ما زيد إلا أنا ضارب، وقال الرماني: لا يقال: ما قومك زيدا إلا ضاربون، لأن تقدم الاسم الواقع بعد (إلا) عليها غير جائز فكذلك معموله لما تقرر من أن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل. ولا يؤخر معمول ما قبلها عنها فلا يقال: ما ضرب إلا زيد عمرا، وما ضرب إلا زيدا عمرو، وما مر إلا زيد بعمر، إلا على إضمار عامل يفسره ما قبله. ويستثنى من هذا المستثنى منه وصفته فيجوز تأخيرهما نحو ما قام إلا زيدا أحد، وما مررت بأحد إلا زيدا خير من عمرو. وأجاز الكسائي تأخير المعمول مرفوعا كان أو منصوبا أو مجرورا، واستدل بقوله: فما زادني إلا غراما كلامها. وقوله: و ما كف إلا ماجد ضرب بأس وقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيات والزبر} [النحل: 43،44] ووافقه ابن الأنباري في المرفوع. ووافقه الأخفش في الظرف المجرور والحال نحو ما جلس إلا زيد عندك، و ما مر إلا عمرو بك، وما جاء إلا زيد راكبا. قال أبو حيان وهو المختار. لأنه يتسامح في المذكورات ما لا يتسامح في غيرها. الهمع 1/230-231.
[29908]:حيث قال أبو حيان: (ولا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد إلا بالفعل قبلها إلا إذا كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد) البحر المحيط 6/344.
[29909]:انظر البغوي 5/544.
[29910]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/230-231.
[29911]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29912]:في الأصل: الكتاب.
[29913]:لفظ الجلالة: سقط من الأصل.
[29914]:من قوله تعالى: {قل للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} [فصلت: 44].
[29915]:في النسختين: وأنزلنا . وهو تحريف.
[29916]:من قوله تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحبَّ الحصيد} [ق: 9].
[29917]:لفظ الجلالة: سقط من ب.
[29918]:من قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهو يستغفرون} [الأنفال: 33].
[29919]:من قوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} [التوبة: 14].
[29920]:في النسختين: ليعذب المنافقين. وهو تحريف. وهو من قوله تعالى: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما} [الأحزاب: 73].
[29921]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29922]:[القلم: 4].
[29923]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29924]:في الأصل: رجل.
[29925]:أخرجه أحمد 3/493.
[29926]:تقدم.
[29927]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/230-231.
[29928]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/231.
[29929]:في ب: نعمة. وهو تحريف.
[29930]:في ب: لأن. وهو تحريف.
[29931]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29932]:في الأصل: جهل.
[29933]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29934]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29935]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/231-232.
[29936]:من قوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} [غافر: 7].
[29937]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29938]:من قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب: 56].