تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ كُلَّ شَيۡءٖ قُبُلٗا مَّا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَجۡهَلُونَ} (111)

يقول تعالى : ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم { لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } فنزلنا عليهم الملائكة ، أي : تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل ، كما سألوا فقالوا : { أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا } [ الإسراء : 92 ] { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } [ الأنعام : 124 ] ، { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ{[11056]} عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } [ الفرقان : 21 ] .

{ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } أي : فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل ، { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا } - قرأ بعضهم : " قِبَلا " بكسر القاف وفتح الباء ، من المقابلة ، والمعاينة . وقرأ آخرون{[11057]} [ وقبلا ]{[11058]} بضمهما{[11059]} قيل : معناه من المقابلة والمعاينة أيضا ، كما رواه{[11060]} علي بن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس . وبه قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

وقال مجاهد : { قُبُلا } أفواجًا ، قبيلا قبيلا أي : تعرض عليهم كل أمة بعد أمة{[11061]} فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به { مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } أي : إن الهداية إليه ، لا إليهم . بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وهو الفعال لما يريد ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، لعلمه وحكمته ، وسلطانه وقهره وغلبته . وهذه الآية كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] .


[11056]:في م: "نزل".
[11057]:في أ: "بعضهم".
[11058]:زيادة من م، وفي أ: "قبلا".
[11059]:في م، أ: "بضم القاف والباء".
[11060]:في م، أ: "قاله".
[11061]:في م، أ: "من الأمم".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ كُلَّ شَيۡءٖ قُبُلٗا مَّا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَجۡهَلُونَ} (111)

{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } كما اقترحوا فقالوا : لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفلاء بما بشروا به ، وأنذروا به ، أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات ، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع وابن عامر ، وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه . { ما كانوا ليؤمنوا } لما سبق عليهم القضاء بالكفر . { إلا أن يشاء الله } استثناء من أعم الأحوال أي : لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم ، وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة . { ولكن أكثرهم يجهلون } أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ كُلَّ شَيۡءٖ قُبُلٗا مَّا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَجۡهَلُونَ} (111)

أخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة وإحياء سلفهم حسبما كان من اقتراح بعضهم أن يحشر قصي وغيره ، فيخبر بصدق محمد أو يجمع عليهم كل شيء يعقل أن يحشر عليهم ، ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه في نفس من شاء لا رب غيره ، وهذا يتضمن الرد على المعتزلة في قولهم بالآيات التي تضطر الكفار إلى الإيمان{[5060]} ، وقال ابن جريج : نزلت هذه الآية في المستهزئين .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : لا يثبت إلا بسند ، وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما «قِبَلاً » بكسر القاف وفتح الباء ، ومعناه مواجهة ومعاينة قاله ابن عباس ، وغيره نصبه على الحال ، وقال المبرد : المعنى ناحية كما تقول له قبل فلان دين .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فنصبه على هذا هو على الظرف ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وغيرهم «قُبُلاً » بضم القاف والباء ، وكذلك قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا ، وقرأ { العذاب قبلاً }{[5061]} مكسورة القاف واختلف في معناه فقال عبد الله بن زيد ومجاهد وابن زيد : «قبل » جمع قبيل أي صنفاً صنفاً ونوعاً نوعاً كما يجمع قضيب على قضب وغيره ، وقال الفراء والزجّاج هو جمع قبيل وهو الكفيل ، أي : وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء بصدق محمد ، وذكره الفارسي وضعفه ، وقال بعضهم : ُقبل الضم بمعنى قبل بكسر القاف أي مواجهة كما تقول قبل ودبر ، ومنه قوله تعالى : { قدّ من قبل }{[5062]} ومنه قراءة ابن عمر { لقبل عدتهن }{[5063]} أي لاستقبالها ومواجهتها في الزمن وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة «قُبْلاً » بضم القاف وسكون الباء ، وذلك على جهة التخفيف .

وقرأ طلحة بن مصرف «قَبْلاً » بفتح القاف وإسكان الباء ، وقرأ أبيّ والأعمش «قبيلاً » بفتح القاف وكسر الباء وزيادة ياء ، والنصب في هذا كله على الحال ، وقوله عز وجل : { ولكن أكثرهم يجهلون } الضمير عائد إلى الكفار المتقدم ذكرهم ، والمعنى يجهلون أن الآية تقتضي إيمانهم ولا بد ، فيقتضي اللفظ أن الأقل لا يجهل فكان فيهم من يعتقد أن الآية لو جاءت «لم يؤمن إلا أن يشاء الله » له ذلك .


[5060]:- وهكذا يؤكد ابن عطية رحمه الله أنه يخالف المعتزلة في آرائهم خلافا لما يدعيه بعض المحدثين، راجع المقدمة.
[5061]:- من الآية (55) من سورة (الكهف) وهي قوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا}.
[5062]:- من قوله تعالى في الآية (26) من سورة (يوسف): {إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين}.
[5063]:- من الآية (1) من سورة (الطلاق). وهي قراءة شاذة، ونص الآية في القراءة المتواترة: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} إلى آخر الآية.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ كُلَّ شَيۡءٖ قُبُلٗا مَّا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَجۡهَلُونَ} (111)

جملة { وَلَوْ أَنَّنَا } معطوفة على جملة { وما يُشعركم } [ الأنعام : 109 ] باعتبار كون جملة { وما يُشعركم } عطفاً على جملة { قل إنّما الآيات عند الله } [ الأنعام : 109 ] ، فتكون ثلاثتها ردّا على مضمون جملة { وأقسموا بالله جَهْد أيمانهم لئن جاءتهم آية } [ الأنعام : 109 ] إلخ ، وبيانا لجملة { وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] .

روى عن ابن عبّاس : أنّ المستهزئين ، الوليدَ بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسودَ بن عَبْدِ يغوثَ ، والأسودَ بنَ المطّلب ، والحارثَ بن حنظلة ، من أهل مكّة . أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَهْط من أهل مكّة فقالوا : " أرِنا الملائكةَ يشهدون لك أوْ ابعث لنا بعض موتانا فنسألهم : أحقّ ما تقول " وقيل : إن المشركين قالوا : « لا نؤمن لك حتَّى يُحشر قُصَيٌ فيُخبِرَنا بصِدْقك أو ائتِنا بالله والملائكة قبيلاً أي كفيلاً » فنزل قوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } للردّ عليهم . وحكى الله عنهم { وقالوا لن نؤمن لك } إلى قوله { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } في سورة الإسراء : ( 90 92 ) . وذَكر ثلاثة أشياء من خوارق العادات مسايرة لمقترحاتهم ، لأنَّهم اقترحوا ذلك .

وقوله : { وحَشَرنا عليهم كلّ شيء } يشير إلى مجموع ما سألوه وغيرِه . والحَشر : الجمع ، ومنه : { وحُشر لسليمان جنوده } [ النمل : 17 ] . وضمّن معنى البعث والإرسَالِ فعُدّي بعلَى كما قال تعالى : { بعثنا عليكم عباداً لنا } [ الإسراء : 5 ] . و { كل شيء } يعمّ الموجودات كلّها . لكن المقام يخصّصه بكلّ شيء ممّا سألوه ، أو من جنس خوارق العادات والآيات ، فهذا من العام المراد به الخصوص مثل قوله تعالى ، في ريح عاد { تدمر كل شيء بأمر ربها } [ الأحقاف : 25 ] والقرينة هي ما ذكر قبله من قوله : { ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى } .

وقوله : { قِبَلاً } قرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر بكسر القاف وفتح الباء ، وهو بمعنى المقابلة والمواجهة ، أي حشرنا كلّ شيء من ذلك عياناً . وقرأه الباقون بضمّ القاف والباء وهو لغة في قِبَل بمعنى المواجهة والمعاينة ؛ وتأوّلها بعض المفسّرين بتأويلات أخرى بعيدة عن الاستعمال ، وغير مناسبة للمعنى .

و { ما كانوا ليؤمنوا } هو أشدّ من ( لا يؤمنون ) تقوية لنفي إيمانهم ، مع ذلك كلّه ، لأنَّهم معاندون مكابرون غير طالبين للحقّ ، لأنَّهم لو طَلَبوا الحقّ بإنصاف لكفتْهم معجزة القرآن ، إنْ لَمْ يكفهم وضوح الحقّ فيما يدْعُو إليه الرّسول عليه الصلاة والسلام . فالمعنى : الإخبار عن انتفاء إيمانهم في أجدر الأحوال بأن يؤمن لها من يؤمن ، فكيف إذا لم يكن ذلك . والمقصود انتفاء إيمانهم أبداً .

{ ولو } هذه هي المسماة { لَوْ } الصهيبية ، وسنشرح القول فيها عند قوله تعالى : { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون في سورة الأنفال ( 23 ) .

وقوله : { إلا أن يشاء الله } استثناء من عموم الأحوال التي تضمّنها عموم نفي إيمانهم ، فالتّقدير : إلاّ بمشيئة الله ، أي حال أن يشاء الله تغيير قلوبهم فيؤمنوا طوعاً ، أو أن يكرههم على الإيمان بأن يسلّط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أراد الله ذلك بفتح مكّة وما بعده .

ففي قوله : { إلا أن يشاء الله } تعريض بوعد المسلمين بذلك ، وحذفت الباء مع « أنْ » .

ووقع إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار : لأنّ اسم الجلالة يوميء إلى مقام الإطلاق وهو مقامُ { لا يُسأل عمّا يفعل } [ الأنبياء : 23 ] ، ويومىء إلى أنّ ذلك جرى على حسب الحكمة لأنّ اسم الجلالة يتضمّن جميع صفات الكمال .

والاستدراك بقوله : { ولكن أكثرهم يجهلون } راجع إلى قوله : { إلا أن يشاء الله } المقتضي أنّهم يؤمنون إذا شاء الله إيمانهم : ذلك أنَّهم ما سألوا الآيات إلاّ لتوجيه بقائهم على دينهم ، فإنَّهم كانوا مصمّمين على نبذ دعوة الإيمان ، وإنَّما يتعلَّلون بالعلل بطلب الآيات استهزاء ، فكان إيمانهم في نظرهم من قبيل المحال ، فبيّن الله لهم أنَّه إذا شاء إيمانَهم آمنوا ، فالجهل على هذا المعنى : هو ضدّ العلم . وفي هذا زيادة تنبيه إلى ما أشار إليه قوله : { إلا أن يشاء الله } من أنّ ذلك سيكون ، وقد حصل إيمان كثير منهم بعد هذه الآية . وإسناد الجهل إلى أكثرهم يدلّ على أنّ منهم عقلاء يحسبون ذلك .

ويجوز أن يكون الاستدراك راجعاً إلى ما تضمّنه الشّرط وجوابُه : من انتفاء إيمانهم مع إظهار الآيات لهم ، أي لا يؤمنون ، ويزيدهم ذلك جهلاً على جهلهم ، فيكون المراد بالجهل ضدّ الحلم ، لأنَّهم مستهزئون ، وإسناد الجهل إلى أكثرهم لإخراج قليل منهم وهم أهل الرأي والحلم فإنَّهم يرجى إيمانهم ، لو ظهرت لهم الآيات ، وبهذا التّفسير يظهر موقع الاستدراك .

فضمير { يجهلون } عائد إلى المشركين لا محالة كبقية الضّمائر التي قبله .