يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبدا ، { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي : حسنة البناء ، طيبة القرار ، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي عمران الجوني ، عن أبي بكر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " {[13623]}
وبه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للمؤمن في الجنة لَخَيْمَة من لؤلؤة واحدة مُجَوَّفة ، طولها ستون ميلا في السماء ، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم ، لا يرى بعضهم بعضا " أخرجاه{[13624]} وفي الصحيحين أيضا ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آمن بالله ورسوله ، وأقام الصلاة وصام رمضان ، فإن{[13625]} حقا على الله أن يدخله الجنة ، هاجر في سبيل الله ، أو جلس في أرضه التي ولد فيها " . قالوا : يا رسول الله ، أفلا نخبر الناس ؟ قال : " إن في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تَفَجَّر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن " {[13626]} وعند الطبراني والترمذي وابن ماجه ، من رواية زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول . . . فذكر مثله{[13627]}
وللترمذي عن عبادة بن الصامت ، مثله{[13628]}
وعن أبي حازم ، عن سهل بن سعد{[13629]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أهل الجنة ليتراءون الغُرفة في الجنة ، كما تراؤون الكوكب في السماء " . أخرجاه في الصحيحين{[13630]}
ثم ليعلم{[13631]} أن أعلى منزلة في الجنة مكانٌ يقال له : " الوسيلة " لقربه من العرش ، وهو مسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة ، كما قال الإمام أحمد [ بن حنبل ]{[13632]} حدثنا عبد الرازق ، أخبرنا سفيان ، عن ليث ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة " قيل : يا رسول الله ، وما الوسيلة ؟ قال : " أعلى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رجل واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو " {[13633]} وفي صحيح مسلم ، من حديث كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلُّوا عليَّ ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أنى أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة " {[13634]} [ وفي صحيح البخاري ، من حديث محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة " ]{[13635]} وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوا الله لي الوسيلة ، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا - أو شفيعا - يوم القيامة " {[13636]} وفي مسند الإمام أحمد ، من حديث سعد{[13637]} أبي مجاهد الطائي ، عن أبي المدله ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قلنا : يا رسول الله ، حدثنا عن الجنة ، ما بناؤها ؟ قال : " لبنة ذهب ، ولبنة فضة ، وملاطها المسك ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم لا يبأس ، ويخلد لا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه " {[13638]} وروي عن ابن عمر مرفوعا ، نحوه{[13639]}
وعند الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة لغُرفا يرى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها " . فقام أعرابي فقال : يا رسول الله ، لمن هي ؟ فقال : " لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " {[13640]}
ورواه الطبراني ، من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري ، كل منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه{[13641]} وكل من الإسنادين جيد حسن ، وعنده{[13642]} أن السائل هو " أبو مالك " ، فالله أعلم .
وعن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خَطَر لها ، هي - ورب الكعبة - نور يتلألأ وريحانة تَهْتَزّ ، وقصر مَشيدٌ ، ونهر مُطَّرد ، وثمرة نَضِيجة ، وزوجة حسناء جَميلة ، وحُلَل كثيرة ، ومقام في{[13643]} أبد ، في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية " . قالوا : نعم يا رسول الله ، نحن المشمرون لها ، قال : " قولوا : إن شاء الله " . فقال القوم : إن شاء الله . رواه ابن ماجه{[13644]} وقوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } أي : رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم ، كما قال الإمام مالك ، رحمه الله ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخُدْري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ، عز وجل ، يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك يا ربنا وسعديك ، والخير في يدك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ، وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحدا من خلقك . فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا " أخرجاه من حديث مالك{[13645]} وقال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي : حدثنا الفضل الرُّخاميّ ، حدثنا الفِرْياني ، عن سفيان ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله ، عز وجل : هل تشتهون شيئا فأزيدكم ؟ قالوا : يا ربنا ، ما خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضواني أكبر " .
ورواه البزار في مسنده ، من حديث الثوري{[13646]} وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه " صفة الجنة " : هذا عندي على شرط الصحيح ، والله أعلم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله وأقرّوا به وبما جاء به من عند الله من الرجال والنساء "جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ "يقول: بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار، "خالِدِينَ فِيها" يقول: لابثين فيها أبدا مقيمين لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد. "وَمَساكِنَ طَيّبَةً" يقول: ومنازل يسكنونها طيبة...
وأما قوله: "فِي جَنّاتِ عَدْنٍ" فإنه يعني: وهذه المساكن الطيبة التي وصفها جلّ ثناؤه في جنات عدن... وقيل: جنات عدن، لأنها بساتين خلد وإقامة لا يظعن منها أحد. وقيل: إنما قيل لها جنات عدن، لأنها دار الله التي استخلصها لنفسه ولمن شاء من خلقه، من قول العرب: عدَن فلان بأرض كذا: إذا أقام بها وخلد بها، ومنه المعدن، ويقال: هو في معدن صدق، يعني به أنه في أصل ثابت... حدثني موسى بن سهل، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا الليث بن سعد، قال: حدثنا زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَدْنٌ دارُهُ» يعني دار الله «التي لم ترها عَيْنٌ ولم تَخْطُرْ على قَلْبٍ بَشَرٍ، وهي مَسْكَنُهُ، ولا يسكنها معه من بني آدم غَيْرُ ثلاثٍ: النبيين، والصدّيقين، والشهداء، يقول الله تبارك وتعالى: طُوبَى لمن دَخَلَكَ».
وقال آخرون: معنى جَنّاتِ عَدْنٍ: جنات أعناب كروم...
وقال آخرون: هي اسم لُبْطَنان الجنة ووسطها...
وقال آخرون: عدن: اسم لقصر...وقيل: هي مدينة الجنة... وقيل: إنه اسم نهر...نهر في الجنة، جناته على حافتيه.
وأما قوله: "وَرِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أكْبَرُ" فإن معناه ورضا الله عنهم أكبر من ذلك كله، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الجَنّةِ: يا أهْلَ الجَنّةِ فَيَقُولُونَ: لَبّيْكَ رَبّنا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولونَ: ومَا لَنا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أحَدا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقول أنا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذلكَ قالُوا: يا رَبّ وأيّ شيء أفْضَلُ مِنْ ذلكَ؟ قال: أُحِلّ عَلَيْكُمْ رِضْوَاني فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدا»...
وابتدئ الخبر عن رضوان الله للمؤمنين والمؤمنات أنه أكبر من كلّ ما ذكر جلّ ثناؤه، فرُفع، وإن كان الرضوان فيما قد وعدهم، ولم يعطف به في الإعراب على الجنات والمساكن الطيبة، ليعلم بذلك تفضيل الله رضوانه عن المؤمنين على سائر ما قسم لهم من فضله وأعطاهم من كرامته، نظير قول القائل في الكلام لآخر: أعطيتك ووصلتك بكذا وأكرمتك، ورضاي بعد عنك أفضل ذلك.
"ذلكَ هُوَ الفَوُزُ العَظِيمُ": هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات، "هو الفوز العظيم"، يقول: هو الظفر العظيم والنجاء الجسيم، لأنهم ظفروا بكرامة الأبد، ونجوا من الهوان في السفر، فهو الفوز العظيم الذي لا شيء أعظم منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي: رضاء اللَّه عنهم أكبر من كل ما أعطاهم؛ لأن فيه حياة الروح ولذته، وما أعطاهم من الجنة والمساكن الطيبة فيه حياة الجسد ولذته، وحياة الروح أرفع وأكبر من حياة الجسد؛ لأنه لا يؤثر زيادة في الجسد، كذلك العز والحمد، والذكر الحسن فيه حياة الروح ولذته؛ إذ ليس فيه زيادة في الجسد، إنما هو فرح وسرور يدخل فيه، وإذا أصابه شيء من الذل أو سمع مكروهًا، حزن واهتم من غير أن يتألم جسده أو يجد ألمًا وشدة في نفسه، وذلك لما أصاب روحه ولم يصب جسده، وأصله أن العمل في الدنيا لطلب مرضاة اللَّه، ومرضاته أكبر من العمل لطلب ثوابه؛ لأن العمل لطلب رضائه أمر عليه، والعمل لطلب الثواب أمر له، فالذي قام بأداء ما عليه أعظم درجة وأكبر فضلًا من الذي قام بعمل ما له؛ لأن كل أحد يعمل ما له وله فيه نفع، ولا كل أحد يعمل لغيره؛ لذلك كان ما ذكر.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
لأنه فوز ونجاة، لا خوف بعده، ولا هوان ولا ذل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وَعَدَهُم جميعاً الجنةَ، ومساكنَ طيبة، ولا يطيب المَسْكَنُ إلا برؤيةِ المحبوبِ، وكلُّ مُحِبٍ يطيب مَسْكَنُه برؤية محبوبه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ}: وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تتهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه، ولم يجد لها لذة وإن عظمت. وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرّة من مشايخنا يقول: لا تطمح عيني ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة كما تطمح وتنازع إلى رضاه عني، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده. {ذلك}: إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان: أي هو {الفوز العظيم} وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً...
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكره في هذه الآية على سبيل التفصيل، وذلك لأنه تعالى وعد بالرحمة، ثم بين في هذه الآية أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء. فأولها قوله: {جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} والأقرب أن يقال إنه تعالى أراد بها البساتين التي يتناولها المناظر لأنه تعالى قال بعده: {ومساكن طيبة في جنات عدن} والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه، فتكون مساكنهم في جنات عدن، ومناظرهم الجنات التي هي البساتين، فتكون فائدة وصفها بأنها عدن، أنها تجري مجرى الدار التي يسكنها الإنسان.
وأما الجنات الآخرة فهي جارية مجرى البساتين التي قد يذهب الإنسان إليها لأجل التنزه وملاقاة الأحباب.
وثانيها: قوله: {ومساكن طيبة في جنات عدن} قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن...
والنوع الثالث: من المواعيد التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله: {ورضوان من الله أكبر} والمعنى أن رضوان الله أكبر من كل ما سلف ذكره، واعلم أن هذا هو البرهان القاطع على أن السعادات الروحانية أشرف وأعلى من السعادات الجسمانية، وذلك لأنه إما أن يكون الابتهاج بكون مولاه راضيا عنه، وأن يتوسل بذلك الرضا إلى شيء من اللذات الجسمانية أو ليس الأمر كذلك، بل علمه بكونه راضيا عنه يوجب الابتهاج والسعادة لذاته من غير أن يتوسل به إلى مطلوب آخر، والأول باطل، لأن ما كان وسيلة إلى الشيء لا يكون أعلى حالا من ذلك المقصود، فلو كان المقصود من رضوان الله أن يتوسل به إلى اللذات التي أعدها الله في الجنة من الأكل والشرب لكان الابتهاج بالوسيلة لا بد وأن يكون أقل حالا من الابتهاج بالمقصود. فوجب أن يكون رضوان الله أقل حالا وأدون مرتبة من الفوز بالجنات والمساكن الطيبة، لكن الأمر ليس كذلك، لأنه تعالى نص على أن الفوز بالرضوان أعلى وأعظم وأجل وأكبر، وذلك دليل قاطع على أن السعادات الروحانية أكمل وأشرف من السعادات الجسمانية. واعلم أن المذهب الصحيح الحق وجوب الإقرار بهما معا كما جمع الله بينهما في هذه الآية. ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة قال: {ذلك هو الفوز العظيم} وفيه وجهان: الأول: أن الإنسان مخلوق من جوهرين، لطيف علوي روحاني، وكثيف سفلي جسماني وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة، فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية كانت الروح فائزة بالسعادات اللائقة بها، والجسد واصلا إلى السعادات اللائقة به، ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم. الثاني: أنه تعالى بين في وصفه المنافقين أنهم تشبهوا بالكفار الذين كانوا قبلهم في التنعم بالدنيا وطيباتها. ثم إنه تعالى بين في هذه الآية وصف ثواب المؤمنين، ثم قال: {ذلك هو الفوز العظيم} والمعنى: أن هذا هو الفوز العظيم، لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الآية نص في مساواة النساء للرجال في نعيم الآخرة كله حتى أعلاه، بالتبع لمساهمتهن لهم في التكليف وولاية الإيمان، إلا ما خصهن الشرع له لضعفهن، وانفرادهن بوظائفهن الخاصة بهن، إذ حط عنهن وجوب القتال، والصلاة والصيام في بعض الأحوال، وهذا من المعلوم بالضرورة من أحكام الإسلام، وإن جهله أو تجاهله أعداؤه الطغام، والجنات: البساتين الملتفة الأشجار بحيث تجن الأرض أي تغطيها وتسترها. وجريان الأنهار من تحت أشجارها، مزيد في جمالها، ومانع من أسون مائها، والخلود فيها عبارة عن المقام الدائم، وتقدم مثله مراراً. وأما المساكن الطيبة في جنات عدن فهي الدور والخيام التي يطيب لساكنيها بها المُقام في ذلك المَقام، لاشتمالها على جميع المرافق والأثاث والرياش والزينة والرزق الذي تتم به راحة المقيم فيها وغبطته، ومنها الغرفات التي قال الله تعالى فيها: {وهم في الغرفات آمنون} [سبأ: 37] وقال: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} [العنكبوت: 58] وقال: {لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار} [الزمر: 20]. وأما إضافة هذه الجنات إلى عدن فقد تعددت في التنزيل بما جاوز جمع القلة، ومعنى العدن في اللغة: الإقامة والاستقرار والثبات، يقال عدن في مكان كذا من بابي: ضرب وقعد أقام وثبت فيه، ومنه المعدن لمستقر الجواهر كالذهب والفضة والماس وغيرها. وفسروها بقولهم: جنات إقامة وخلود كقوله تعالى: {جنة الخلد} [الفرقان: 15] و {جنة المأوى} [النجم: 15]، ولكن هاتين وردتا باللفظ المفرد مضافاً إلى معرفة، فهما اسمان لدار النعيم كلفظ الجنة في مثل {ادخلوا الجنة} [الأعراف: 49] و {يدخلون الجنة} [النساء: 124]، وسيأتي في سورة يونس {تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم} [يونس: 9]، وأما "جنات عدن "فهو جمع أضيف إلى هذا اللفظ المفرد عدن، فجعله بمعنى إقامة كما قيل يقتضي جعله مكرراً مع قوله قبله {جنات تجري من تحتها الأنهار} [البقرة: 25]، لأنها وصفت بالإقامة وبالخلود فيها أيضاً، على ما في تنكير عدن بهذا المعنى من الضعف، فوجب أن يكون لفظ عدن معرفة، ومعنى التركيب: في جنات المكان المسمى بهذا الاسم [عدن]. وقد ورد في الأحاديث ما يفسر هذا، وهو ذكر جنة عدن باللفظ المفرد المضاف، وفي بعضها ما يدل على أن المراد بها مكان أو منزل من منازل دار النعيم كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها، وهو ما يكون فيه تجلي الرؤية، التي هي أعلى النعيم وأكمل المعرفة: روى الشيخان من حديث أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه -وهو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه- في تفسير آيات سورة الرحمن {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وقوله بعد وصفهما {ومن دونهما جنتان} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما من فضة، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما من ذهب، وما بين القوم وبين أن ينظروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)، أي حالة كونهم في جنة عدن، فالمتبادر من هذا أن جنة عدن مكان سام في طبقة من طبقات الجنة، لا أنها نكرة مضافة إلى نكرة. ومجموع الحديث والآيات يدل على أن عدنا منزل في أعلى الجنة، وأن فيه جنات أي بساتين متعددة، لكل من خاف مقام ربه منها جنتان، ومن دونهما جنتان، وهي كالأربع الموصوفة في سورة الرحمن. ويقرب من حديث أبي موسى المتفق عليه حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن)، فيفهم منه أن الفردوس هو جنة عدن، وهذا ما قاله مقاتل والكلبي، قالا: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنات محدقة حولها الخ، وتتمته في تفسير البغوي. وقد ثبت في المرفوع أن أعلى درجة في الجنة على الإطلاق تسمى الوسيلة وهي درجة النبي صلى الله عليه وسلم التي طلب منا أن نسألها له في دعاء الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) فهذه درجة خاصة. ومن هنا يعلم أن قوله تعالى: {ورضوان من الله أكبر} بعد ذكر جنات عدن يراد به أعلى درجات الرضوان، وما هو إلا مقام رؤية الرب تعالى التي تكمل بها معرفة الرحمن، وتتم سعادة الإنسان، فالإنسان جسد وروح، ففي الجنات ومساكنها أعلى النعيم الجسماني، ورضوان الله الأكبر هو أعلى النعيم الروحاني، فالتنوين فيه للتعظيم، والدليل على ما حررته أنه لم يعطف مفرداً على ما قبله مما وعدوا به على الإيمان وأعماله لأنه فوق كل جزاء، كما أشير إليه في قوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]؛ بل جاء مرفوعاً في اللفظ كرفعه معناه، في جملة مستقلة تقديرها: وهنالك رضوان من الله أكبر وأعظم من تلك الجنات وما فيها. لا يقدر قدره، ولا يكتنه سره. فهذا ما يفهم بمعونة الحديث من اختلاف إعرابه ووصفه باسم التفضيل أكبر، وقد ورد لفظ رضوان معطوفا على ما قبله غير موصوف بهذا الوصف، ولا موصولاً بكونه من الله في آية {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} [التوبة: 21] من هذه السورة وذكرت في تفسيرها ما ورد من قوله تعالى: {ورضوان من الله} معطوفاً على الجنات والأزواج، فهل يجوز في بلاغة القرآن أن يكون ما هنا من اختلاف الإعراب ووصف أكبر بغير فائدة؟ وهل يجد له من الفائدة ما هو أليق به مما ورد في الحديث الصحيح من نعمة الرؤية؟ كلا، ولم يبين هذا بنص صريح في القرآن، لئلا يكون فتنة لمن لم تسم أرواحهم إلى إدراك هذه المعاني، فحكمته الرحمة بضعف الإنسان، واللبيب يفهم بالإشارة، ما لا يفهمه الغبي بأفصح عبارة، أفلم تر كيف اختلف الألباء في فهم قوله سبحانه: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23]. وأما تحقيق معنى الرؤية والحكم فيما اختلفوا فيه من معنى هذه الآية، ومعنى رداء الكبرياء وغيره من الحجب التي تحجب العبد عن ربه، فقد فصلته في تفسير سورة الأعراف تفصيلاً يقربه من العقل والعلم (ج 9 تفسير)، فهو وما هنا مما انفرد هذا التفسير بتحقيقه بإلهام الله تعالى وفضله وله الحمد والمنة: ووجه المقابلة الضدية بين ما هنا وما في وعيد المنافقين قبله ظاهر، فالجنات التي تجري من تحتها الأنهار والخلود فيها مقابل لنار جهنم والخلود فيها، والمساكن الطيبة في جنات عدن مقابل للعذاب المقيم، ورضوان الله الأكبر للمؤمنين مقابل للعنة الله للمنافقين والكافرين، إذ هي الطرد والحرمان من رحمته الخاصة، نعوذ بوجهه. {ذلك هو الفوز العظيم} أي ذلك الذي ذكر من الوعد للمؤمنين والمؤمنات بالنعيم الجسماني والروحاني، هو الفوز العظيم الذي يجزى به أولئك المؤمنون الصالحون المصلحون دون غيره من هذه الحظوظ الدنيوية الخسيسة الفانية التي يتكالب عليها الكفار والمنافقون الفاسدون المفسدون، وإنما هي في نظر المتقين بلغة عامل، وزاد مسافر، فما على المؤمن إلا أن يحاسب نفسه وينصب لها الميزان، من كفة المؤمنين وكفة المنافقين في هذه الآيات، ويحكم لها أو عليها بحكم الله عز وجل لا بهواها، ولا يغترن أحد بلقب الإسلام، ولا بدعوى الإيمان، إلا إذا شهد بصدقه القرآن...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين، وكانت لعنته لهم بالمرصاد، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضآلة والحرمان. فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين: (جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن).. للإقامة المطمئنة. ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم: (ورضوان من اللّه أكبر).. وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم. (ورضوان من اللّه أكبر).. إن لحظة اتصال باللّه. لحظة شهود لجلاله. لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة. لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعه من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار. لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح اللّه.. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع، وكل رجاء.. فكيف برضوان من اللّه يغمر هذه الأرواح، وتستشعره بدون انقطاع؟ (ذلك هو الفوز العظيم)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... فعل المضي في قوله: {وعد الله} إمّا لأنّه إخبار عن وَعد تقدّم في آي القرآن قُصد من الإخبار به التذكيرُ به لتحقيقه، وإمّا أن يكون قد صيغ هذا الوعد بلفظ المضي على طريقة صِيَغ العقود مثل بِعتُ وتَصدّقتُ، لكون تلك الصيغة معهودة في الالتزام الذي لا يَتخلّف. وقد تقدّم نظيره آنفاً في قوله: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم} [التوبة: 68].
والإظهار في مقام الإضمار دون أن يقال: وعَدهم الله: لتقريرهم في ذهن السامع ليتمكّن تعلّق الفعل بهم فضلَ تمكّن في ذهن السامع.
وتقدّم الكلام على نحو قوله: {جنات تجري من تحتها الأنهار} عند قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} في سورة البقرة (25).
وعطفُ {ومساكن طيبة في جنات عدن} على {جنات} للدلالة على أن لهم في الجنّات قصوراً ومساكن طيّبة، أي ليس فيها شيء من خبث المساكن من الأوساخ وآثار علاج الطبخ ونحوه نظير قوله: {ولهم فيها أزواج مطهرة} [البقرة: 25].
و (العدن): الخلد والاستقرار المستمرّ، فجنّات عدن هي الجنات المذكورة قبلُ، فذكرها بهذا اللفظ من الإظهار في مقام الإضمار مع التفنّن في التعبير والتنويه بالجنّات، ولذلك لم يقل: ومساكن طيبة فيها.
وجملة: {ورضوان من الله أكبر} معطوفة على جملة {وعد الله المؤمنين}. والرضوان... مصدر كالرضى، وزيادة الألف والنون فيه تدلّ على قوته، كالغُفران والشكران.
والتنكير في {رضوان} للتنويع، يدلّ على جنس الرضوان، وإنّما لم يقرن بلام تعريف الجنس ليتوسّل بالتنكير إلى الإشعار بالتعظيم فإنّ رضوان الله تعالى عَظيم.
و {أكبرُ} تفضيل لم يذكر معه المفضَّل عليه لظهوره من المقام، أي أكبر من الجنّات لأنّ رضوان الله أصل لجميع الخيرات...
ويأتي بعد ذلك وعد للمؤمنين والمؤمنات بالجزاء والنعيم في الآخرة، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (72)}. والوعد: بشارة بخير يأتي زمانه بعد الكلام. والوعيد: إنذار بسوء يأتي بعد الكلام. الوعد يشجع السامع على أن يبذل جهده ويعمل، حتى يتحقق له الخير الذي وعد به.
والوعيد يعطي السامع فرصة أن يمتنع عما يغضب الله فلا يناله عذاب الله... {وعد الله المؤمنين والمؤمنات}... والوعد والإيعاد هما ميزان الوجود دنيا وآخرة، لأنك إن وعدت من يلتزم بمنهج الله خيرا، استحسن الناس جميعا أن يصلوا إلى الخير بإتباعهم المنهج، وإن أوعدتهم بشر إن خالفوا منهج الله، نفر الناس من المخالفة والمعصية خوفا من العذاب وتجنبوا الشر. فإن صدق وعدك لأهل الخير بالخير، وصدق وعيدك لأهل الشر بالشر، استقام ميزان الحياة...
وكل من لا يملك القدرة على تنفيذ ما وعد به أو أوعد به، لا يكون لكلامه وزن في حركة الحياة. على أنه إذا كان الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى فإنه مختلف مع منطق البشر، لأننا أهل أغيار، فقد أعد بخير لا استطيع تنفيذه، وقد أعد بعقاب ثم أضعف بسبب ظروف معينة فلا أقوى على التنفيذ. إذن: فلكي تستقيم حركة الحياة، لا بد أن يأتي الوعد والوعيد من القادر دائما، القوي دائما، الموجود دائما، صاحب الكلمة العليا بحيث لا يوجد شيء يمكن أن يجعله لا يفي بوعده أو لا يتم وعيده...