تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا} (21)

وقوله : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } أي : لباس أهل الجنة فيها الحرير ، ومنه سندس ، وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم ، والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان ، وهو مما يلي الظاهر ، كما هو المعهود في اللباس{[29614]} { وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ } وهذه صفة الأبرار ، وأما المقربون فكما قال : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ]

ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال{[29615]} بعده : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } أي : طهر بواطنهم من الحَسَد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرّديَّة ، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : إذا انتهى أهلُ الجنة إلى باب الجنة وَجَدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما [ فأذهب الله ]{[29616]} ما في بطونهم من أذى ، ثم اغتسلوا من الأخرى فَجَرت عليهم نضرةُ النعيم .


[29614]:- (3) في أ: "في الملبس".
[29615]:- (4) في أ: "فقال".
[29616]:- (5) مكانها في هـ، كلمة غير واضحة، والمثبت من م، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا} (21)

القول في تأويل قوله تعالى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلّوَاْ أَسَاوِرَ مِن فِضّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } .

يقول تعالى ذكره : فوقهم ، يعني فوق هؤلاء الأبرار ثياب سُنْدُسٍ . وكان بعض أهل التأويل يتأوّل قوله : عالِيَهُمْ فوق حِجَالهم المثبتة عليهم ثِيابُ سُنْدُسٍ وليس ذلك بالقول المدفوع ، لأن ذلك إذا كان فوق حجالٍ هم فيها ، فقد علاهم فهو عاليهم .

وقد اختلف أهل القراءة في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة وبعض قرّاء مكة : «عَالِيْهِمْ » بتسكين الياء . وكان عاصم وأبو عمرو وابن كثير يقرءونه بفتح الياء ، فمن فتحها جعل قوله عالِيَهُمْ اسما مرافعا للثياب ، مثل قول القائل : ظاهرهم ثياب سندس .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقوله : ثِيابُ سُنْدُسٍ يعني : ثياب ديباج رقيق حسن ، والسندس : هو ما رقّ من الديباج .

وقوله : خُضْرٌ اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه أبو جعفر القارىء وأبو عمرو برفع خُضْرٌ على أنها نعت للثياب ، وخفض «اسْتَبْرَقٍ » عطفا به على السندس ، بمعنى : وثياب إستبرق . وقرأ ذلك عاصم وابن كثير : «خُضْرٍ » خفضا واسْتَبْرَقٌ رفعا ، عطفا بالاستبرق على الثياب ، بمعنى : عاليهم استبرق ، وتصييرا للخضر نعتا للسندس . وقرأ نافع ذلك : خُضْرٌ رفعا على أنها نعت للثياب واسْتَبْرَقٌ رفعا عطفا به على الثياب . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «خُضْرٍ واسْتَبْرَقٍ » خفضا كلاهما . وقرأ ذلك ابن محيصن بترك إجراء الاستبرق : «واسْتَبْرَقَ » بالفتح بمعنى : وثياب استبرق ، وفَتَحَ ذلك لأنه وجّهه إلى أنه اسم أعجميّ . ولكلّ هذه القراءات التي ذكرناها وجه ومذهب ، غير الذي سبق ذكرنا عن ابن محيصن ، فإنها بعيدة من معروف كلام العرب ، وذلك أن الاستبرق نكرة ، والعرب تجري الأسماء النكرة وإن كانت أعجمية ، والاستبرق : هو ما غَلُظ من الديباج . وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في ذلك فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الاستبرق : الديباج الغليظ .

وقوله : وَحُلّوا أساوِرَ مِنْ فِضّةٍ يقول : وحلاهم ربهم أساور ، وهي جمع أسورة من فضة .

وقوله : وَسَقاهُمْ رَبّهُمْ شَرَابا طَهُورا يقول تعالى ذكره : وسقى هؤلاء الأبرار ربّهُم شرابا طهورا ، ومن طهره أنه لا يصير بولاً نجسا ، ولكنه يصير رشحا من أبدانهم كرشح المسك ، كالذي :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم التيمي وَسَقاهُمْ رَبّهُمْ شَرَابا طَهُورا قال : عرق يفيض من أعراضهم مثل ريح المسك .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن منصور ، عن إبراهيم التيمي ، مثله .

قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم التيمي ، قال : إن الرجل من أهل الجنة يقسَمُ له شهوة مئة رجل من أهل الدنيا ، وأكلهم وهمتهم ، فإذا أكل سقي شرابا طهورا ، فيصير رشحا يخرج من جلده أطيب ربحا من المسك الأذفر ، ثم تعود شهوته .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : شَرَابا طَهُورا قال : ما ذكر الله من الأشربة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أبان ، عن أبي قِلابة : إن أهل الجنة إذا أكلوا وشربوا ما شاءوا دَعَوا بالشراب الطهور فيشربونه ، فتطهر بذلك بطونهم ويكون ما أكلوا وشربوا رَشْحا وريحَ مسك ، فتضمر لذلك بطونهم .

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره «شكّ أبو جعفر الرازي » قال : صعد جبرائيل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسريَ به إلى السماء السابعة ، فاستفتَح ، فقيل له : من هذا ؟ فقال : جبرائيل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَدْ أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حياه الله من أخ وخليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيءُ جاء قال : فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس على كرسيّ عند باب الجنة ، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام الذين في ألوانهم شيء ، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خَلَص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خَلَصت ألوانهم ، فصارت مثل ألوان أصحابهم ، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم ، فقال : يا جبريل من هذا الأشمط ، ومن هؤلاء البيض الوجوه ، ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، وما هذه الأنهار التي اغتسلوا فيها ، فجاءوا وقد صفت ألوانهم ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم ، أوّل من شَمِط على الأرض ، وأما هؤلاء البيض الوجوه ، فقوم لم يَلْبِسوا إيمانهم بظلم . وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا فتابوا ، فتاب الله عليهم . وأما الأنهار ، فأوّلها رحمة الله ، والثاني نعمة الله ، والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا} (21)

{ عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة }

هذه الأشياء من شعار الملوك في عرف الناس زَمانَئِذ ، فهذا مرتبط بقوله { ومُلكاً كبيراً } [ الإنسان : 20 ] .

وقرأ نافع وحمزة وأبو جعفر { عَاليهم } بسكون الياء على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملة { رأيْتَ نعيماً ومُلْكاً كبيراً } [ الإنسان : 20 ] ، ف { عاليهم } مبتدأ و { ثياب سندس } فاعلُه سادٌّ مسدّ الخبر وقد عمل في فاعله وإن لم يكن معتمداً على نفي أو استفهام أو وصف ، وهي لغة خَبير بنو لهب وتكون الجملة في موضع البيان لجملة : { رأيت نعيماً } [ الإنسان : 20 ] .

وقرأ بقية العشرة { عَاليَهم } بفتح التحتية على أنه حال مفرد ل { الأبرار } [ الإنسان : 5 ] ، أي تلك حالة أهل الملك الكبير .

وإضافة { ثياب } إلى { سندس } بيانية مثل : خَاتَم ذَهَببِ ، وثَوْببِ خَزَ ، أي منه .

والسندس : الديباج الرقيق .

والإستبرق : الديباج الغليظ وتقدما عند قوله تعالى : { ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق } في سورة الكهف ( 31 ) وهما معرَّبان .

فأما السندس فمعرب عن اللغة الهندية وأصله ( سندون ) بنون في آخره ، قيل : إن سبب هذه التسمية أنه جلب إلى الإِسكندر ، وقيل له : إن اسمه ( سندون ) فصيره للغة اليونان سندوس ( لأنهم يكثرون تنهية الأسماء بحرف السين ) وصيّره العرب سُندساً . وفي اللسان } : أن السندس يتخذ من المِرْعِزَّى ( كذا ضبطه مصححه ) والمعروف المِرْعِز كما في « التذكرة » و« شفاء الغليل » . وفي « التذكرة » المِرْعز : ما نَعُم وطال من الصوف اه . فلعله صوف حيوان خاص فيه طول أو هو من نوع الشعَر ، والظاهر أنه لا يكون إلاّ أخضر اللون لقول يزيد بن حذاق العبدي يصف مرعى فَرسه :

وداوَيْتُها حتى شَتَتْ حَبَشِيَّةً *** كأنَّ عليها سُندساً وسُدُوساً

أي في أرض شديدة الخضرة كلون الحَبشي . وفي « اللسان » : السدوس الطيلسان الأخضر . ولقول أبي تمَّام يرثي محمد بن حميد النبهاني الطوسي :

تَرَدَّى ثيَابَ الموتِ حُمْراً فما أتَى *** لها الليلُ إلاَّ وهْيَ من سُندس خُضْرُ

وأما الإِستبرق فنسج من نسج الفرس واسمه فارسي ، وأصله في الفارسية : استقره .

والمعنى : أن فوقهم ثياباً من الصنفين يلبسون هذا وذاك جمعاً بين محاسن كليهما ، وهي أفخر لباس الملوك وأهل الثروَة .

ولون الأخضر أمتع للعين وكان من شعار الملوك ، قال النابغة يمدح ملوك غسان :

يَصونُون أجْساداً قديما نعيمها *** بخَالصةِ الأردَان خُضْر المَنَاكِب

والظاهر أن السندس كان لا يصبغ إلاّ أخضر اللون .

وقرأ نافع وحفص { خضرٌ } بالرفع على الصفة ل { ثياب } . و { إستبرقٌ بالرفع أيضاً على أنه معطوف على ثياب } بقيد كونها من سندس فمعنى عاليهم إستبرق : أن الإِستبرق لباسُهم .

وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم { خُضْرٍ } بالجر نعتاً ل { سندس ، } و { إستبرق } بالرفع عطفاً على { ثياب } .

وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب خُضْرٌ } بالرفع و { إستبرقٍ } بالجر عطفاً على { سندس } بتقدير : وثياب إستبرق .

وقرأ حمزة والكسائي { خُضرٍ } بالجر نعتاً ل { سندسٍ } باعتبار أنه بيان للثياب فهو في معنى الجمع . وقرأ و { إستبرقٍ } بالجر عطفاً على { سندس .

والأساور : جمع سِوار وهو حَلي شكله اسطواني فارغ الوسط يلبسه النساء في معاصمهن ولا يلبسه الرجال إلاّ الملوك ، وقد ورد في الحديث ذكر سواري كسْرى .

والمعنى : أن حال رجال أهل الجنة حال الملوك ومعلوم أن النساء يتحلّيْنَ بأصناف الحلي .

ووصفت الأساور هنا بأنها من فضة . } وفي سورة الكهف ( 31 ) بأنها { من ذهب } في قوله : يُحلَّون فيها من أساور من ذهب ، أي مرة يحلَّون هذه ومرة الأخرى ، أو يحلونهما جميعاً بأن تجعل متزاوجة لأن ذلك أبْهج منظراً كما ذكرناه في تفسير قوله : { كانت قواريرا قواريرا من فضة } [ الإنسان : 15 ، 16 ] .

هذا احتراس مما يوهمه شُربهم من الكأس الممزوجة بالكافور والزنجبيل من أن يكون فيها ما في أمثالها المعروفة في الدنيا ومن الغَوْل وسوءِ القول والهذيان ، فعبر عن ذلك بكون شرابهم طَهوراً بصيغة المبالغة في الطهارة وهي النزاهة من الخبائث ، أي منزهاً عما في غيره من الخباثة والفساد .

وأسند سقيه إلى ربهم إظهاراً لكرامتهم ، أي أمر هو بسقيهم كما يقال : أطعَمهم ربُّ الدار وسقاهم .