تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَوۡ يَأۡخُذَهُمۡ عَلَىٰ تَخَوُّفٖ فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (47)

وقوله : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } أي : أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم ، فإنه يكون أبلغ وأشد حالة الأخذ ؛ فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد ؛ ولهذا قال العوفي ، عن ابن عباس : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } يقول : إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك . وكذا روي عن مجاهد ، والضحاك ، وقتادة وغيرهم .

ثم قال تعالى : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : حيث لم يعاجلكم بالعقوبة ، كما ثبت في الصحيحين " [ لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم " {[16479]} ، وفي الصحيحين ]{[16480]} إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ]{[16481]} وقال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] .


[16479]:صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804).
[16480]:زيادة من ت، ف، أ.
[16481]:صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَوۡ يَأۡخُذَهُمۡ عَلَىٰ تَخَوُّفٖ فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (47)

وأما قوله : أوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوّفٍ فإنه يعني : أو يهلكهم بتخوّف ، وذلك بنقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم ، يقال منه : تخوّف مال فلان الإنفاق : إذا انتقصه ، ونحو تخوّفه من التخوّف بمعنى التنقص ، وقول الشاعر :

تَخَوّفَ السّيْرُ مِنْها تامِكا قَرِدا *** كما تَخَوّفَ عُودَ النّبْعَةِ السّفَنُ

يعني بقوله : تخوّف السير : تنقص سَنامها . وقد ذكرنا عن الهيثم بن عديّ أنه كان يقول : هي لغة لأزد شَنوءة معروفة لهم ومنه قول الاَخر :

تَخَوّفَ عَدْوُهُمْ مالي وأهْدَى *** سَلاسِل في الحُلُوقِ لَهَا صَلِيلُ

وكان الفرّاء يقول : العرب تقول : تحوّفته : أي تنقصته ، تحوّفا : أي أخذته من حافاته وأطرافه ، قال : فهذا الذي سمعته ، وقد أتى التفسير بالحاء وهما بمعنى . قال : ومثله ما قرىء بوجهين قوله : إن لكَ في النّهارِ سَبْحا و «سَبْخا » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن إبراهيم بن عامر بن مسعود ، عن رجل ، عن عُمَر أنه سألهم عن هذه الاَية : أوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوّفٍ فقالوا : ما نرى إلاّ أنه عند تنقص ما يردّده من الاَيات ، فقال عمر : ما أرى إلاّ أنه على ما تنتقصون من معاصي الله . قال : فخرج رجل ممن كان عند عمر ، فلقى أعرابيّا ، فقال : يا فلان ما فعل ربك ؟ قال : قد تَخَيفته ، يعني تنقصته . قال : فرجع إلى عمر فأخبره ، فقال : قدّر الله ذلك .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخُوّفٍ يقول : إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوّف بذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس : على تَخَوّفٍ قال : التنقص والتفزيع .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوّفٍ على تنقص .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : على تَخَوّفٍ قال : تنقص .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أو يَأْخُذَهُمْ على تَخَوّفٍ فيعاقب أو يتجاوز .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوّفٍ قال : كان يقال : التخوّف : التنقّص ، ينتقصهم من البلدان من الأطراف .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوّفٍ يعني : يأخذ العذاب طائفة ويترك أخرى ، ويعذّب القرية ويهلكها ، ويترك أخرى إلى جنبها .

وقوله : فإنّ رَبّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ يقول : فإن ربكم إن لم يأخذ هؤلاء الذين مكروا السيئات بعذاب معجّل لهم ، وأخذهم بموت وتنقص بعضهم في أثر بعض ، لرءوف بخلقه ، رحيم بهم ، ومن رأفته ورحمته بهم لم يخسف بهم الأرض ، ولم يعجّل لهم العذاب ، ولكن يخوّفهم وينقّصهم بموت .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَوۡ يَأۡخُذَهُمۡ عَلَىٰ تَخَوُّفٖ فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (47)

وقوله { على تخوف } أي على جهة التخوف ، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

تخوف السير منها تامكاً فرداً . . . كما تخوف عود النبعة السفن{[7316]}

فالسفن : الِمبرد ، ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى «التخوف » في هذه الآية ، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك ، حتى سمع هذا البيت ، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة «التخوف » ، فقال له يا أمير المؤمنين : إن أبي يتخوفني مالي ، فقال عُمر : الله كبر { أو يأخذهم على تخوف } ، ومنه قول طرفة :

وجامل خوف من نبيه . . . زجرُ المعلى أبداً والسفيح{[7317]}

ويروى من نبته ، ومنه قول الآخر : [ الوافر ]

ألأم على الهجاء وكل يوم . . . تلاقيني من الجيران غول

تخوف غدرهم مالي وهدي . . . سلاسل في الحلوق لها صليل{[7318]}

يريد الأهاجي ، ومنه قول النابغة : [ الطويل ]

تخوفهم حتى أذل سراتهم . . . بطعن ضرار بعد قبح الصفائح{[7319]}

قال القاضي أبو محمد : وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين : أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذاً ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء ، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه ، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت ، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها ، ويؤيد هذا قوله { فإن ربكم لرؤوف رحيم } أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد ، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع : والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى ، ثم كذلك حتى يهلك الكل ، وقالت فرقة : «التخوف » هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول تكلف ما .


[7316]:البيت لابن مقبل، (اللسان ـ خوف)، والتخوف: التنقص، وقال الفراء: "إنه التنقيص، و العرب تقول: تحوفته (بالحاء المهملة) بمعنى: تنقصته من حافاته، و قد جاء التفسير بالحاء"، وقال ابن الأعرابي: "تحوفته وتحيفته، وتخوفته وتخيفته". و التامك: السنام، وقيل: السنام المرتفع، والقرد: الذي تجمع شعره، أو الذي تراكم لحمه من السمن، والنبعة: واحدة النبع، و هو من شجر الجبال، تتخذ منه القسي لصلابته، و السفن: الحديدة التي تبرد بها القسي. يقول ابن مقبل: إن السير قد أخذ ينقص من سنام هذه الناقة و من لحمها السمين كما ينتقص المبرد من خشب القسي. و يروى: "تخوف الرحل" بدلا من : "تخوف السير".
[7317]:هذا البيت لطرفة، و هو من أبيات قالها يصف مرضه ويسأل عن عواده فيه، والجامل: القطيع من الإبل، وخوف: نقص، ويروى "خوع" وهي بمعنى نقص أيضا، ولكن لا يصلح شاهدا، وفاعل الفعل (خوف) هو قوله: "زجر المعلى" في الشطر الثاني، والنيب: جمع ناب وهي الناقة المسنة. والمعلي: سابع سهام الميسر، و السفيح: قدح من قداح الميسر لا نصيب له، وأصلا: جمع أصيل، وهو الوقت بين العصر والمغرب، يقول: إن هذا القطيع من الإبل قد أتى على نياقه النقص بسبب ما خسره صاحبه منه في لعب الميسر في وقت الأصيل. وفي (اللسان ـ خوف) أن أبا إسحق رواه: "من نبته" بدلا من "نيبته".
[7318]:استشهد أبو عبيدة بهذين البيتين في "مجاز القرآن" على أن "التخوف" هو "التنقص" والشاهد في البيت الثاني، أي: تنقص عدوهم مالي، والعدو هو العدوان أو الاعتداء، ويروى "غدرهم" بالغين والراء، ويريد بالسلاسل: قوافي الشعر التي تنشد، وهي قلائد في الأعناق، وصليل القوافي هو صوتها حين تنشد.
[7319]:التخوف: التنقص، و السراة: اسم جمع سري، وليس جمعا، لأن فعيل لم يجمع على فعلة، قال سيبويه: الدليل على أنه ليس جمعا قولهم: سروات، أو هو جمع سري على غير قياس، والسري: الشريف النفيس الرفيع المنزلة: ذو المروءة، والطعن ضرارا هو الطعن عن قرب شديد (راجع أساس البلاغة)، والصفائح: السيوف العراض، ونفخت بالسيف: ضربت ضربا خفيفا، أو التناول بالسيف من بعيد شذرا واحتقارا للمضروب، فهو طعن شديد بالرماح بعد ضرب خفيف بالسيوف، أو طعن بالرماح عن قرب بعد تناول بالسيوف من بعيد، ولم أجد البيت في ديوان النابغة. (طبع ونشر الشركة التونسية للتوزيع ـ الجزائر ، وتحقيق الأستاذ الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، طبعة مكملة).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوۡ يَأۡخُذَهُمۡ عَلَىٰ تَخَوُّفٖ فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٌ} (47)

والتخوّف في اللغة يأتي مصدر تخوّف القاصر بمعنى خاف ومصدر تخوّف المتعدّي بمعنى تنقّص ، وهذا الثاني لغة هذيل ، وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن .

فللآية معنيان : إما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة توقّع نزول العذاب بأن يريهم مقدماته مثل الرعد قبل الصّواعق ، وإما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة تنقّص من قبل أن يتنقّصهم قبل الأخذ بأن يكثر فيهم الموتان والفقر والقحط .

وحرف { على } مستعمل في التمكّن على كلا المعنيين ، ومحل المجرور حال من ضمير النصب في { يأخذهم } وهو كقولهم : أخذه على غرّة .

روى الزمخشري وابن عطية يزيد أحدهما على الآخر : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خفي عليه معنى التخوّف في هذه الآية وأراد أن يكتب إلى الأمصار ، وأنه سأل الناس وهو على المنبر : ما تقولون فيها ؟ فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا . التخوّف : التنقّص . قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم ، قال شاعرنا :

تخوّف الرحل منها تامكا قردا *** كما تخوّف عودَ النبعة السفن{[257]}

فقال عمر رضي الله عنه : « أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضلّ ، قالوا وما ديواننا ؟ قال شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم » .

وتفرّع { فإن ربكم لرؤوف رحيم } على الجمل الماضية تفريع العلّة على المعلّل . وحرف ( إن ) هنا مفيد للتعليل ومغن عن فاء التفريع كما بيّنه عبد القاهر ، فهي مؤكدة لما أفادته الفاء . والتّعليل هنا لما فهم من مجموع المذكورات في الآية من أنه تعالى قادر على تعجيل هلاكهم وأنه أمهلهم حتى نسوا بأس الله فصاروا كالآمنين منه بحيث يستفهم عنهم : أهم آمنون من ذلك أم لا .


[257]:-  قلت: نسب في الكشاف هذا البيت إلى زهير وكذلك في الأساس وليس زهير بهذلي، ونسبه صاحب اللسان إلى ابن مقبل وليس ابن مقبل بهذلي وكيف وقد قال الشيخ الهذلي لعمر قال اعرنا فهو هذلي ووقع في تفسير البيضاوي أن الشيخ الهذلي أجاب عمر بقوله نعم« قال شاعرنا أبو كبير» وقال الخفاجي البيت من قصيدة له مذكورة في شعر هذيل فنسبة البيت إلى أبي كبير أثبت. وهذا البيت في وصف راحلة أثر الرحل في سنامها فتنقص من وبره. والتامك: بكسر الميم السنام المشرف. والقرد بكسر الراد المتبلد الوبر. والنبعة قصبة شجر النبع تتخذ منه القسي. والسفن بالتحريك البرد.