ثم قال : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } أي : جعلناه يسير سيرًا آخر يستدل به على مضي الشهور ، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] ، وقال { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } الآية [ يونس : 5 ] ، وقال : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا } [ الإسراء : 12 ] ، فجعل الشمس لها ضوء يخصها ، والقمر{[24747]} له نور يخصه ، وفاوت بين سير هذه وهذا ، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد ، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفًا وشتاء ، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل ، ثم يطول الليل ويقصر النهار ، وجعل سلطانها بالنهار ، فهي كوكب نهاري . وأما القمر ، فقدره منازل ، يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور ، ثم يزداد نورًا في الليلة الثانية ، ويرتفع{[24748]} منزلة ، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء ، وإن كان مقتبسًا من الشمس ، حتى يتكامل نوره{[24749]} في الليلة الرابعة عشرة ، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر ، حتى يصير كالعرجون القديم .
قال ابن عباس : وهو أصل العِذْق .
وقال مجاهد : العرجون القديم : أي العذق اليابس .
يعني ابن عباس : أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى ، وكذا قال غيرهما . ثم بعد هذا يبديه الله جديدًا في أول الشهر الآخر ، والعرب تسمي كل ثلاث{[24750]} ليال من الشهر باسم باعتبار القمر ، فيسمون الثلاث الأول " غُرَر " واللواتي بعدها " نفل " ، واللواتي بعدها " تُسع " ؛ لأن أخراهن التاسعة ، واللواتي بعدها " عُشَر " ؛ لأن أولاهن العاشرة ، واللواتي بعدها " البيض " ؛ لأن ضوء القمر فيهن إلى آخرهن ، واللواتي بعدهن " دُرَع " جمع دَرْعاء ؛ لأن أولهن سُود{[24751]} ؛ لتأخر القمر في أولهن ، ومنه الشاة الدرعاء وهي التي رأسها أسود . وبعدهن ثلاث " ظُلم " ثم ثلاث " حَنَادس " ، وثلاث " دآدئ " {[24752]} وثلاث " مَحاق " ؛ لانمحاق القمر أواخر الشهر فيهن . وكان أبو عُبيد{[24753]} ينكر التُّسع والعشَر . كذا قال في كتاب " غريب المصنف " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْقَمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّىَ عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلّيْلُ سَابِقُ النّهَارِ وَكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَالقَمَرَ قَدّرْناهُ مَنازِلَ فقرأه بعض المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين : «وَالقَمَرُ » رفعا عطفا بها على الشمس ، إذ كانت الشمس معطوفة على الليل ، فأتبعوا القمر أيضا الشمس في الإعراب ، لأنه أيضا من الاَيات ، كما الليل والنهار آيتان ، فعلى هذه القراءة تأويل الكلام : وآية لهم القمرُ قدّرناه منازل . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين ، وعامة قرّاء الكوفة نصبا : وَالقَمَرَ قَدّرْناهُ بمعنى : وقدّرنا القمر منازل ، كما فعلنا ذلك بالشمس ، فردّوه على الهاء من الشمس في المعنى ، لأن الواو التي فيها للفعل المتأخر .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، فتأويل الكلام : وآية لهم ، تقديرنا القمر منازل للنقصان بعد تناهيه وتمامه واستوائه ، حتى عاد كالعرجون القديم والعرجون : من العذق من الموضع النابت في النخلة إلى موضع الشماريخ وإنما شبهه جلّ ثناؤه بالعرجون القديم ، والقديم هو اليابس ، لأن ذلك من العِذْق ، لا يكاد يوجد إلا متقوّسا منحنيا إذا قدم ويبس ، ولا يكاد أن يُصاب مستويا معتدلاً ، كأغصان سائر الأشجار وفروعها ، فكذلك القمرُ إذا كان في آخر الشهر قبل استسراره ، صار في انحنائه وتقوّسه نظير ذلك العرجون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : حتى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ يقول : أصل العِذق العتيق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : حتى عادَ كالعُرجُونَ القَديم يعني بالعُرجون : العذقَ اليابس .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : والقَمَرَ قَدّرْناهُ مَنازِلَ حتى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ قال : كعِذْق النخلة إذا قدُم فانحنى .
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقيّ ، قال : حدثنا أبو يزيد الخرّاز ، يعني خالد بن حيان الرقّي ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصمّ في قوله : حتى عادَ كالعُرْجُونَ القَدِيمِ قال : عذق النخلة إذا قدُم انحنى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عيسى بن عبيد ، عن عكرمة ، في قوله : كالعُرْجُونِ القَدِيمِ قال : النخلة القديمة .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد كالعُرْجُونِ القَدِيمِ قال : العِذْق اليابس .
حدثني محمد بن عمر بن عليّ المقدمي وابن سنان القزاز ، قالا : حدثنا أبو عاصم والمقدمي ، قال : سمعت أبا عاصم يقول : سمعت سليمان التيمي في قوله : حتى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ قال : العذْق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حتى عادَ كالْعُرْجُونِ القَدِيمِ قال : قدّره الله منازل ، فجعل ينقص حتى كان مثل عذق النخلة ، شبهه بعذق النخلة .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والحسن والأعرج :{ والقمرُ }بالرفع عطفاً على قوله :{ وآية لهم الليل } عطف جملة على جملة ويصح وجه آخر وهو أن يكون قوله :{ وآية } ابتداء وخبره محذوف ، كأنه قال : في الوجود وفي المشاهدة ، ثم فسر ذلك بجملتين من ابتداء وخبر وابتداء وخبر ، الأولى منهما { الليل نسلخ منه النهار } ، والثانية { والقمر قدرناه منازل } ، وقرأ الباقون :{ والقمرَ قدرناه } بنصب { القمر } على إضمار فعل يفسره { قدرناه } وهي قراءة أبي جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه ، و { منازلَ } نصب على الظرف ، وهذه المنازل المعروفة عند العرب وهي ثمانية وعشرون منزلة يقطع القمر منها كل ليلة أقل من واحدة فيما يزعمون ، وعودته هي استهلاله رقيقاً ، وحينئذ يشبه { العرجون } وهو الغصن من النخلة الذي فيه شماريخ التمر فإنه ينحني ويصفر إذا قدم ويجيء أشبه شيء بالهلال قاله الحسن بن أبي الحسن ، والوجود تشهد به ، وقرأ سليمان التيمي :{ كالعِرجون } بكسر العين ، و { القديم } معناه :العتيق الذي قد مر عليه زمن طويل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.