تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

ثم نَدَبهم إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات ، فقال : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي : كما أعدّت النار للكافرين . وقد قيل : إن معنى قوله : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } تنبيها{[5670]} على اتساع طولها ، كما قال في صفة فرش الجنة : { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] أي : فما ظنك بالظهائر ؟ وقيل : بل عرضها كطولها ؛ لأنها قبة تحت العرش ، والشيء المُقَبَّب والمستدير عَرْضُه كطوله . وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح : " إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجنة فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ " {[5671]} .

وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } الآية [ رقم21 ] .

وقد روينا في مسند الإمام أحمد : أنّ هِرَقْل كَتَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إنك دَعَوْتني إلى جنة عَرْضُها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال النبي{[5672]} صلى الله عليه وسلم : " سُبْحَانَ اللهِ ! فأين{[5673]} الليل إذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟ " {[5674]} .

وقد رواه ابنُ جرير فقال : حدثني يونس ، أنبأنا ابنُ وَهْب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن أبي خُثَيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مُرَّة{[5675]} قال : لَقِيت التَّنوخي رَسُولَ هِرَقْل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحِمْص ، شيخا كبيرا فَسَدَ ، قال : قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هِرَقْل ، فنَاول الصحيفة رَجُلا عن يساره . قال : قلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية . فإذا كتاب صاحبي : " إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين ، فأين النار ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سُبْحَانَ الله ! فأيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟ " {[5676]} .

وقال الأعمش ، وسفيان الثوري ، وشُعْبَة ، عن قيس بن مسلم{[5677]} عن طارق بن شهاب ، أن ناسا من اليهود سألوا عُمَرَ بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال عمر [ رضي الله عنه ]{[5678]} أرأيتم إذا جاء الليل أين النهار ؟ وإذا جاء النهار أين الليل ؟ فقالوا : لقد نزعت مثْلَها من التوراة .

رواه ابن جرير من الثلاثة الطرق{[5679]} {[5680]} ثم قال : حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا جعفر بن بُرْقَان ، أنبأنا يزيد بن الأصم : أن رجلا من أهل الكتاب قال : يقولون : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ فقال ابن عباس : أين يكون الليل إذا جاء النهار ، وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟{[5681]} .

وقد رُوي هذا مرفوعا ، فقال البَزّار : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم ، عن عَمّه يزيد بن الأصَم ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت قوله تعالى : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ قال : " أرَأيْتَ اللَّيْلَ إذا جَاءَ لَبسَ كُلَّ شَيْءٍ ، فَأيْنَ النَّهَار ؟ " قال : حيث شاء الله . قال : " وَكَذِلَكَ{[5682]} النَّارُ تكون حيث شاء الله عز وجل " {[5683]} .

وهذا يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يكون المعنى في ذلك : أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل ، وهذا{[5684]} أظهر كما تقدم في{[5685]} حديث أبي هريرة ، عن{[5686]} البزار .

الثاني : أن يكون المعنى : أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن الليل يكون من الجانب الآخر ، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش ، وعرضها كما قال الله ، عز وجل : { كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ الحديد : 21 ] والنار في أسفل سافلين . فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض ، وبين وجود النار ، والله أعلم .


[5670]:في ر: "تنبيه".
[5671]:صحيح البخاري برقم (2790) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5672]:في جـ، ر: "رسول الله".
[5673]:في و: "أين".
[5674]:المسند (3/442) من حديث التنوخي. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/15): "هذا حديث غريب تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به".
[5675]:في ق: "أبي مرة" وهو خطأ".
[5676]:تفسير الطبري (7/211، 212).
[5677]:في أ: "سلمة".
[5678]:زيادة من أ.
[5679]:في جـ، ر: "طرق".
[5680]:تفسير الطبري (7/211، 212).
[5681]:في جـ، ر، أ، و: "فقال ابن عباس: أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل".
[5682]:في أ: "فلذلك"، وفي و: "فكذلك".
[5683]:ورواه الحاكم في المستدرك (1/36) من طريق محمد بن معمر عن المغيرة به. وقال: "على شرطهما ولم يخرجاه ولا أعلم له علة"ووافقه الذهبي.
[5684]:في أ: "فهذا".
[5685]:في أ: "من".
[5686]:في أ: "عند".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ }

يعني تعالى ذكره بقوله : { وَسَارِعُوا } وبادروا وسابقوا إلى مغفرة من ربكم ، يعني : إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته ، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها { وَجنّةِ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ } يعنى سارعوا أيضا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، ذكر أن معنى ذلك : وجنة عرضها كعرض السموات السبع ، والأرضين السبع ، إذا ضمّ بعضها إلى بعض . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ وَالأَرْضُ } قال : قال ابن عباس : تقرن السموات السبع والأرضون السبع ، كما تقرن الثياب بعضها إلى بعض ، فذاك عرض الجنة .

وإنما قيل : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ } فوصف عرضها بالسموات والأرضين ، والمعنى ما وصفنا من وصف عرضها بعرض السموات والأرض ، تشبيها به في السعة والعظم ، كما قيل : { مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني إلا كبعث نفس واحدة ، وكما قال الشاعر :

كأنّ عَذِيرَهُمْ بجَنُوبِ سِلّى *** نَعامٌ قَاقَ فَي بَلَدٍ قِفارِ

أي عذير نعام ، وكما قال الاَخر :

حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتي عَناقا *** وَما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بالْعَناقِ

يريد صوت عناق . وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : هذه الجنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال : «هَذَا النّهارُ إذَا جَاءَ ، أيْنَ اللّيْلُ ؟ » .

ذكر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مرة ، قال : لقيت التنوخيّ رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخا كبيرا قد أقعد ، قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلاً عن يساره ، قال : قلت من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ، فإذا هو : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين ، فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سُبْحانَ اللّهِ ، فأيْنَ اللّيْلُ إذَا جاءَ النّهارُ ؟ » .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض ، أين النار ؟ قال : «أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ » فقالوا : اللهمّ نزعْتَ مثله من التوراة .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نجران ، فسألوه وعنده أصحابه ، فقالوا : أرأيت قوله : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتِ وَالأرْضُ } فأين النار ؟ فأحجم الناس ، فقال عمر : «أرأيتم إذا جاء الليل ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟ » فقالوا : نزعت مثلها من التوراة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا شعبة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر ، بنحوه في الثلاثة الرهط الذين أتوا عمر ، فسألوه عن جنة عرضها كعرض السموات والأرض ، بمثل حديث قيس بن مسلم .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، أخبرنا الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر ، فقال : تقولون : جنة عرضها السموات والأرض أين تكون النار ؟ فقال له عمر : أرأيت النهار إذا جاء ، أين يكون الليل ؟ أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ فقال : إنه لمثلها في التوراة ، فقال له صاحبه : لم أخبرته ؟ فقال له صاحبه : دعه إنه بكلّ موقنٌ .

حدثني أحمد بن حازم ، قال : أخبرنا أبو نعيم ، قال : حدثنا جعفر بن برقان ، قال : حدثنا يزيد بن الأصم أن رجلاً من أهل الكتاب أتى ابن عباس ، فقال : تقولون جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال ابن عباس : أرأيت الليل إذا جاء ، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟

وأما قوله : { أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ } فإنه يعني : إن الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرضين السبع أعدها الله للمتقين ، الذين اتقوا الله ، فأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم ، فلم يتعدّوا حدوده ، ولم يقصروا في واجب حقه عليهم فيضيعوه . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : { وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ } : أي ذلك لمن أطاعني وأطاع رسولي .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

{ وسارعوا } بادروا وأقبلوا . { إلى مغفرة من ربكم } إلى ما يستحق به المغفرة ، كالإسلام والتوبة والإخلاص . وقرأ نافع وابن عامر سارعوا بلا واو . { وجنة عرضها السماوات والأرض } أي عرضها كعرضهما ، وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريقة التمثيل ، لأنه دون الطول . وعن ابن عباس كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض ، { أعدت للمتقين } هيئت لهم ، وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وإنها خارجة عن هذا العالم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

{ سارعوا إلى مغرفة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض } .

قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { سارعوا } دون واو عطف .

تتنزل جملة { سارعوا . . } منزلة البيان ، أو بدل الاشتمال ، لجملة { وأطيعوا الله والرسول } لأن طاعة الله والرسول مسارعة إلى المغفرة والجنة فلذلك فصلت . ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصالحة ، جاز عطف الجملة على جملة الأمر بالطاعة ، فلذلك قرأ بقية العشرة وسارعوا بالعطف . وفي هذه الآية ما ينبأنا بأنه يجوز الفصل في بعض الجمل باعتبارين .

والسرعة المشتق منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والقبور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة ، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة ، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند التنفير كقوله في الحديث وإذا استنفرتم فانفروا .

والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة ، وأسباب دخول الجنة ، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات .

وجيء بصيغة المفاعلة ، مجرد عن المعنى حصول الفعل من جانبين ، قصد المبالغة في طلب الإسراع ، والعرب تأتي بما يدل على الوضع على تكرر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير ، ونظيره التثنية في قولهم : لبيك وسعديك ، وقوله تعالى { ثم ارجع البصر كرتين } .

وتنكير { مغفرة } ووصلها بقوله { من ربكم } مع تأتي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربكم ، لقصد الدلالة على التعظيم ، ووصف الجنة بان عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التصريح بحرف التشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد . والعرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول ، وليس هو المراد هنا ، ويطلق على الاتساع لأن الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق ، وهذا كقول العديل :

ودون يد الحجاج من أن تنالني *** بساط بأيدي الناعجات عريض

وذكر السماوات والأرض على طريقة العرب في تمثيل شدة الاتساع . وليس المراد حقيقة عرض السماوات والأرض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنة مخلوق الآن ، وأنها في السماء ، وقيل : هو عرضها حقيقة ، وهي مخلوقة الآن لكنها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش ، وقد روي : العرش سقف الجنة . وأما من قال : إن الجنة لن تخلق الآن وستخلق يوم القيامة ، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنة منهم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي الظاهري ، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك . وأدلة الكتاب والسنة ظاهرة في أن الجنة مخلوقة ، وفي حديث رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله إن جبريل وميكال قالا له : ارفع رأسك ، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب ، قالا : هذا منزلك ، قال : فقلت : وعامي أدخل منزلي ، قالا : إنه بقي لك لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك .

{ أعدت للمتقين }

وأعقب وصف الجنَّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممَّا يزيد التَّنويه به ، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار كما قال أبو تمام :

مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يعرُب كلّها *** أني بَنيت الجارَ قبل المنزلِ

وجملةُ { أعدّت للمتّقين } استئناف بياني لأنّ ذكر الجنَّة عقب ذكر النَّار الموصوفة بأنَّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا مَن الذين أعدّت لهم : فإن أريد بالمتَّقين أكمل ما يتحقّق فيه التَّقوى ، فإعدادها لهم لأنَّهم أهلها فضلاً من الله تعالى الّذين لا يلجون النار أصلاً عدلاً من الله تعالى فيكون مقابلَ قوله : { واتقوا النار التي أُعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ، ويكون عصاة المؤمنين غير التَّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين ، لمشابهة حالهم حالَ الفريقين عدلاً من الله وفضلاً ، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه ، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنَّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة .

وقد أجرى على المتَّقين صفات ثناءٍ وتنويه ، هي ليست جماع التَّقوى ، ولكن اجتماعها في محلّها مؤذن بأنّ ذلك المحلّ الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى ، وتلك هي مقاومة الشحّ المُطاع ، والهوَى المتَّبع .