يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه : أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم ، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه ، بأن يرفع الناقص العمل ، بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته ، للتساوي بينه وبين ذاك ؛ ولهذا قال : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }
قال الثوري ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر بهم عينه ثم قرأ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري ، به . وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مُرَّة به {[27499]} . ورواه البزار ، عن سهل بن بحر{[27500]} ، عن الحسن بن حماد الوراق ، عن قيس بن الربيع ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد ، عن ابن عباس مرفوعا ، فذكره ، ثم قال : وقد رواه الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد عن ابن عباس موقوفا {[27501]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد {[27502]} البيروتي ، أخبرني محمد بن شعيب {[27503]} أخبرني شيبان ، أخبرني ليث ، عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله ، عز وجل : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال : هم ذرية المؤمن ، يموتون على الإيمان : فإن كانت منازل آبائهم ، أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوا شيئا .
وقال الحافظ الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غَزْوان ، حدثنا شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك . فيقول : يا رب ، قد عملت لي ولهم . فيؤمر بإلحاقهم به ، وقرأ ابن عباس { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ } الآية {[27504]} .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : يقول : والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ، ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة ، وأولادهم الصغار تلحق بهم .
وهذا راجع إلى التفسير الأول ، فإن ذاك مفسر أصرح من هذا . وهكذا يقول الشعبي ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، وأبو صالح ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وابن زيد . وهو اختيار ابن جرير . وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد :
حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا حمد بن فُضَيْل ، عن محمد بن عثمان ، عن زاذان ، عن علي قال : سألتْ خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هما في النار " . فلما رأى الكراهة في وجهها قال : " لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " . قالت : يا رسول الله ، فولدي منك . قال : " في الجنة " . قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الآية ] {[27505]} {[27506]} .
هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء ، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء ، فقد قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب ، أنى لي هذه ؟ فيقول : باستغفار ولدك لك " {[27507]} .
إسناده {[27508]} صحيح ، ولم يخرجوه من هذا الوجه ، ولكن له شاهد في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " {[27509]}
وقوله : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } لما أخبر عن مقام الفضل ، وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك ، أخبر عن مقام العدل ، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد ، بل { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي : مرتهن بعمله ، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس ، سواء كان أبا أو ابنا ، كما قال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ } [ المدثر : 38 - 41 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْءٍ كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّياتهم بإيمان ، ألحقنا بهم ذرّياتهم المؤمنين في الجنة ، وإن كانوا لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم ، تكرمة لاَبائهم المؤمنين ، وما ألتنا آباءهم المؤمنين من أجور أعمالهم من شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في هذه الاَية : «وَالّذِينَ آمَنُوا وأتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهمْ بإِيمانٍ » فقال : إن الله تبارك وتعالى يرفع للمؤمن ذرّيته ، وإن كانوا دونه في العمل ، ليقرّ الله بهم عينه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذرّية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ، ليقرّ بهم عينه ، ثم قرأ «وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّياتِهِم وَما أَلَتْناهمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عمرو بن مرّة الجملي ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذرّيّة المؤمن معه في درجته ، ثم ذكر نحوه ، غير أنه قرأ «وأَتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهِمْ بإِيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ » .
حدثني موسى بن بعد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد ، عن سماعة ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، نحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس ، أنه قال في هذه الاَية «وَالّذِينَ آمَنُوا وأتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهِمْ بإِيمَانٍ » قال : المؤمن ترفع له ذرّيته ، فيلحقون به ، وإن كانوا دونه في العمل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّيّاتهم التي بلغت الإيمان بإيمان ، ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار التي لم تبلغ الإيمان ، وما ألتنا الاَباء من عملهم من شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «وَالّذِينَ آمَنُوا وأتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهِمْ بإيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ » يقول : الذين أدرك ذرّيتهم الإيمان ، فعملوا بطاعتي ، ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة ، وأولادهم الصغار نلحقهم بهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : «وَالّذِينَ آمَنُوا وأتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ » يقول : من أدرك ذريته الإيمان ، فعملوا بطاعتي ألحقتهم بآبائهم في الجنة ، وأولادهم الصغار أيضا على ذلك .
وقال آخرون نحو هذا القول ، غير أنهم جعلوا الهاء والميم في قوله : أَلْحَقْنا بِهِمْ من ذكر الذرّية ، والهاء والميم في قوله : ذرّيتهم الثانية من ذكر الذين . وقالوا : معنى الكلام : والذين آمنوا واتبعتهم ذرّيتهم الصغار ، وما ألتنا الكبار من عملهم من شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «وَالّذِينَ آمَنُوا وأَتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهِمْ بإِيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ » قال : أدرك أبناؤهم الأعمال التي عملوا ، فاتبعوهم عليها واتبعتهم ذرّياتهم التي لم يدركوا الأعمال ، فقال الله جلّ ثناؤه وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال : يقول : لم نظلمهم من عملهم من شيء فننقصهم ، فنعطيه ذرّياتهم الذين ألحقناهم بهم ، الذين لم يبلغوا الأعمال ألحقتهم بالذين قد بلغوا الأعمال .
وقال آخرون : بل معنى ذلك وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِم ذُرّيّتَهُمْ فأدخلناهم الجنة بعمل آبائهم ، وما ألتنا الاَباء من عملهم من شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود يحدّث عن عامر ، أنه قال في هذه الاَية «وَالّذِينَ آمَنُوا وأَتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهِمْ بإِيمَانٍ ألحقنا بهم ذرياتهم وَما أَلَتْناهُمْ مِنَ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » فأدخل الله الذرّية بعمل الاَباء الجنة ، ولم ينقص الله الاَباء من عملهم شيئا ، قال : فهو قوله : وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن سعيد بن جُبَير أنه قال في قول الله : «ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » قال : ألحق الله ذرّياتهم بآبائهم ، ولم ينقص الاَباء من أعمالهم ، فيردّه على أبنائهم .
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : «ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ » : أعطيناهم من الثواب ما أعطينا الاَباء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سمعت إبراهيم في قوله : «وأتْبَعْناهُمْ ذرّيّاتِهمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ » قال : أعطوا مثل أجور آبائهم ، ولم ينقص من أجورهم شيئا .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن إبراهيم «وأتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهِمْ بإِيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِم » قال : أعطوا مثل أجورهم ، ولم ينقص من أجورهم .
قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع «وأتْبَعْناهُمْ ذُرّياتِهِمْ بإِيمَانٍ » يقول : أعطيناهم من الثواب ما أعطيناهم وَما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يقول : ما نقصنا آباءهم شيئا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «وَالّذِينَ آمَنُوا وأَتْبَعْناهُمْ ذُرّياتِهِمْ » كذلك قالها يزيد «ذُرّياتِهمْ بإِيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ » قال : عملوا بطاعة الله فألحقهم الله بآبائهم .
وأولى هذه الأقوال بالصواب وأشبهها بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، القول الذي ذكرنا عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، وهو : والذين آمنوا بالله ورسوله ، وأتبعناهم ذرياتهم الذين أدركوا الإيمان بإيمان ، وآمنوا بالله ورسوله ، ألحقنا بالذين آمنوا ذريتهم الذين أدركوا الإيمان فآمنوا ، في الجنة فجعلناهم معهم في درجاتهم ، وإن قصرت أعمالهم عن أعمالهم تكرمة منا لاَبائهم ، وما ألتناهم من أجور عملهم شيئا .
وإنما قلت : ذلك أولى التأويلات به ، لأن ذلك الأغلب من معانيه ، وإن كان للأقوال الاَخر وجوه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : «وأتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ » فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ على التوحيد بإيمان «ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ » على الجمع ، وقرأته قراء الكوفة وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّتَهُم كلتيهما بإفراد . وقرأ بعض قرّاء البصرة وهو أبو عمرو «وأتْبَعْناهُمْ ذُرّيّاتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّاتِهِمْ » .
والصواب من القول في ذلك أن جميع ذلك قراءات معروفات مستفيضات في قرأة الأمصار ، متقاربات المعاني ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يقول تعالى ذكره : وما ألتنا الاَباء ، يعني بقوله : وَما ألَتْناهُمْ : وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئا ، فنأخذه منهم ، فنجعله لأبنائهم الذين ألحقناهم بهم ، ولكنا وفّيناهم أجور أعمالهم ، وألحقنا أبناءهم بدرجاتهم ، تفضلاً منا عليهم . والألت في كلام العرب : النقص والبخس ، وفيه لغة أخرى ، ولم يقرأ بها أحد نعلمه ، ومن الألت قول الشاعر :
أبْلِغْ بني ثُعَلٍ عَنّي مُغَلْغَلَةً *** جَهْدَ الرّسالَةِ لا ألْتا وَلا كَذِبا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، وَما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال : ما نقصناهم .
حدثني علي قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن ابن عباس قوله : وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يقول : ما نقصناهم .
وحدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا موسى بن بشر ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد ، عن سماعة عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس وَما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال : وما نقصناهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال : ما نقصنا الاَباء للأبناء .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ما نقصنا الاَباء للأبناء ، وَما ألَتْناهُمْ قال : وما نقصناهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال : نقصناهم .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس وَما ألَتنْاهُمْ مِنْ عَمَلِهمْ مِنْ شَيْءٍ يقول : ما نقصنا آباءهم شيئا .
قال ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جُبَير وَما أَلَتْناهُمْ قال : وما ظلمناهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يقول : وما ظلمناهم من عملهم من شيء .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَما أَلَتَنْاهُمْ مِنْ عَمَلِهمْ مِنْ شَيْءٍ يقول : وما ظلمناهم .
وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَما أَلَتْناهُمْ يقول : وما ظلمناهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ قال : يقول : لم نظلمهم من عملهم من شيء : لم ننتقصهم فنعطيه ذرّياتهم الذين ألحقناهم بهم لم يبلغوا الأعمال ألحقهم بالذين قد بلغوا الأعمال وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال : لم يأخذ عمل الكبار فيجزيه الصغار ، وأدخلهم برحمته ، والكبار عملوا فدخلوا بأعمالهم .
وقوله : كُل امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ يقول : كلّ نفس بما كسبت وعملت من خير وشرّ مرتهنة لا يؤاخذ أحد منهم بذنب غيره ، وإنما يعاقب بذنب نفسه .
{ والذين آمنوا } على حور أي قرناهم بأزواج حور ورفقاء مؤمنين . وقيل إنه مبتدأ { ألحقنا بهم } وقوله : { واتبعتهم ذريتهم بإيمان } اعتراض للتعليل ، وقرأ ابن عامر ويعقوب " ذرياتهم " بالجمع وضم التاء للمبالغة في كثرتهم والتصريح ، فإن الذرية تقع على الواحد والكثير ، وقرأ أبو عمرو و " أتبعناهم ذرياتهم " أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان وقيل { بإيمان } حال من الضمير أو الذرية أو منهما وتنكيره للتعظيم ، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق المتابعة في أصل الإيمان . { ألحقنا بهم ذريتهم } في دخول الجنة أو الدرجة . لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية " وقرأ نافع وابن عامر والبصريان { ذرياتهم } . { وما ألتناهم } وما نقصناهم . { من عملهم من شيء } بهذا الإلحاق فإنه كان يحتمل أن يكون بنقص مرتبة الآباء أو بإعطاء الأبناء بعض مثوباتهم ، ويحتمل أن يكون بالتفصيل عليهم وهو اللائق بكمال لطفه . وقرأ ابن كثير بكسر اللام من ألت يألت ، وعنه " لتناهم " من لات يليت و " آلتناهم " من آلت يولت ، و " والتناهم " من ولت يلت ومعنى الكل واحد . { كل امرئ بما كسب رهين } بعمله مرهون عند الله تعالى فإن عمل صالحا فكه وإلا أهلكه .
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والحسن وقتادة وأهل مكة : «واتبعتهم ذريتهم » «بهم ذريتهم » . وقرأ نافع وأبو جعفر وابن مسعود بخلاف عنه وشيبة والجحدري وعيسى ، «وأتبعناهم ذريتهم » «بهم ذرياتهم » . وروى خارجة عنه مثل قراءة حمزة . وقرأ ابن عامر وابن عباس وعكرمة وابن جبير والضحاك : «واتبعتهم ذريتهم » «بهم ذريتهم » . وقرأ أبو عمرو والأعرج وأبو رجاء والشعبي وابن جبير والضحاك : «وأتبعناهم ذريتهم » «بهم ذريتهم » . فكون الذرية جمعاً في نفسه حسن الإفراد في هذه القراءات ، وكون المعنى يقتضي انتشار أن كثرة حسن جمع الذرية في قراءة «ذرياتهم » .
واختلف الناس في معنى الآية ، قال ابن عباس وابن جبير والجمهور : أخبر الله تعالى أن المؤمنين تتبعهم ذريتهم في الإيمان . فيكونون مؤمنين كآبائهم . وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء ، فإنه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء .
وقد ورد في هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم{[10643]} فجعلوا الحديث تفسير الآية وكذلك وردت أحاديث تقتضي «أن الله تعالى يرحم الآباء رعياً للأبناء الصالحين »{[10644]} . وذهب بعض الناس إلى إخراج هذا المعنى من هذه الآية ، وذلك لا يترتب إلا بأن يجعل اسم الذرية بمثابة نوعهم على نحو قوله تعالى { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون }{[10645]} [ يس : 41 ] وفي هذا نظر . وقال ابن عباس أيضاً والضحاك معنى هذه الآية : أن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين . يعني في الوراثة والدفن في قبور الإسلام وفي أحكام الآخرة في الجنة . وحكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال : الآية في الكبار من الذرية وليس فيها من الصغار شيء . وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار . وحكى الطبري قولاً معناه أن الضمير في قوله : { بهم } عائد على ذرية ، والضمير الذي بعده في : { ذريتهم } عائد على { الذين } أي اتبعتهم الكبار وألحقنا نحن الكبار الصغار . وهذا قول مستكره .
وقوله : { بإيمان } هو في موضع الحال . فمن رأى أن الآية في الأبناء الصغار . فالحال من الضمير في قوله : { اتبعتهم } فهو من المفعولين ، ومن رأى أن الآية في الأبناء الكبار فيحتمل أن تكون الحال من المفعولين ، ويحتمل أن تكون من المتبعين الفاعلين ، وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول . لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء . ولفظة { ألحقنا } تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال .
وقرأ جمهور القراء : «أَلتناهم » بفتح الألف من ألَت .
وقرأ ابن كثير وأبو يحيى وشبل : «ألِتناهم » من ألِت بكسر اللام . وقرأ الأعرج : «ألتناهم » على وزن أفعلناهم . وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود : «لتناهم » من لات ، وهي قراءة ابن مصرف . ورواها القواس عن ابن كثير ، وتحتمل قراءة من قرأ : «أَلَتناهم » بالفتح أن تكون من ألات ، فإنه قال : ألات يليت إلاتة . ولات يليت ليتاً . وآلت يولت إيلاتاً ، وألت يألت . وولت يلت ولتاً . وكلها بمعنى نقص ومعنى هذه الآية : أن الله يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجره شيئاً وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور ، ويحتمل قوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } بأن يريد من عملهم المحسن والقبيح ، ويكون الضمير في { عملهم } عائد على الأبناء ، وهذا تأويل ابن زيد ، ويحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } ، والرهين المرتهن ، وفي هذه الألفاظ وعيد .
وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه قرأ : «وما لَتناهم » بغير ألف وفتح اللام . قال أبو حاتم : لا تجوز هذه القراءة على وجه من الوجوه . وأمددت الشي : إذا سربت إليه شيئاً آخر يكثره أو يكثر لديه .
{ والذين ءَامَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } .
اعتراض بين ذِكر كرامات المؤمنين ، والواو اعتراضية .
والتعبير بالموصول إظهار في مقام الإِضمار لتكون الصلة إيماء إلى أن وجه بناء الخبر الوارد بعدها ، أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكونُ الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقِّنون أبناءهم الإِيمان .
والمعنى : والمؤمنون الذين لهم ذرياتٌ مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم .
وقد قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [ التحريم : 6 ] ، وهل يستطيع أحد أن يقي النار غيره إلا بالإِرشاد . ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته .
والتنكير في قوله : { بإيمان } يحتمل أن يكون للتعظيم ، أي بإيمان عظيم ، وعظمتُه بكثرة الأعمال الصالحة ، فيكون ذلك شرطاً في إلحاقهم بآبائهم وتكون النعمة في جعلهم في مكان واحد .
ويحتمل أن يكون للنوعية ، أي بما يصدق عليه حقيقة الإِيمان .
وقرأ الجمهور { واتبعتهم } بهمزة وصل وبتشديد التاء الأولى وبتاء بعد العين هي تاء تأنيث ضمير الفعل . وقرأه أبو عمرو وحده { وأتبعناهم } بهمزة قطع وسكون التاء .
وقوله : { ذريتهم } الأول قرأه الجمهور بصيغة الإِفراد . وقرأه أبو عمرو { ذرياتهم } بصيغة جمع ذرية فهو مفعول { أتبعناهم } . وقرأه ابن عامر ويعقوب بصيغة الجمع أيضاً لكن مرفوعاً على أنه فاعل { أتبعتهم } ، فيكون الإِنعام على آبائهم بإلحاق ذرياتهم بهم وإن لم يعملوا مثل عملهم .
وقد روى جماعة منهم الطبري والبزار وابن عديّ وأبو نعيم وابن مردويه حديثاً مسنداً إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه ( أي في العمل كما صرح به في رواية القرطبي ) لتقرّ بهم عينُه ثم قرأ : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان } إلى قوله : { من شيء } " . وعلى الاحتمالين هو نعمة جمع الله بها للمؤمنين أنواع المسرّة بسعادتهم بمزاوجة الحور وبمؤانسة الإِخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم ، وذلك أن في طبع الإنسان التأنس بأولاده وحبه اتصالهم به .
وقد وصف ذلك محمد بن عبد الرفيع الجعفري المُرسي الأندلسي نزيل تونس سنة 1013 ثلاث عشرة وألف في كتاب له سمّاه « الأنوار النبوية في آباء خير البرية »{[394]} قال في خاتمة الكتاب « قد أطلعني الله تعالى على دين الإِسلام بواسطة والدي وأنا ابن ستة أعوام مع أني كنت إذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم ثم أرجعُ إلى بيتي فيعلمني والدِي دينَ الإِسلام فكنت أتعلم فيهما ( كذا ) معاً وسني حين حُملت إلى مكتَبهم أربعة أعوام فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز كأني انظر الآن إليه مملّساً من غير طَفَل ( اسم لطين يابس وهو طين لزج وليست بعربية وعربيتُه طُفَال كغراب ) ، فكتب لي فيه حروف الهجاء وهو يسألني عن حروف النصارى حرفاً حرفاً تدريباً وتقريباً فإذا سميتُ له حرفاً أعجمياً يكتب لي حرفاً عربياً حتى استوفى جميع حروف الهجاء وأوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعَمِّي وأخي مع أنه رحمه الله قد ألقى نفسه للهلاك لإِمكان أن أخبر بذلك عنه فيُحْرَق لا محالة وقد كان يُلقِّنني ما أقوله عند رؤيتي الأصنام ، فلما تحقق والدي أني أكتم أمور دين الإِسلام أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وبعض الأصدقاء من أصحابه وسافرت الأسفار من جِيَّان لأجتمع بالمسلمين الأخيار إلى غرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء ، فتخلص لي من معرفتهم أني ميزت منهم سبعة رجال كانوا يحدثونني بأحوال غرناطة وما كان بها في الإِسلام وقد مروا كلهم على شيخ من مشائخ غرناطة يقال له الفقيه الأوطوري . . . » الخ .
وإيثار فعل { ألحقنا } دون أن يقال : أدخلنا معهم ، أو جعلنا معهم لعله لما في معنى الإِلحاق من الصلاحية للفَور والتأخير ، فقد يكون ذلك الإِلحاق بعد إجراء عقاب على بعض الذرية استحقوه بسيئاتهم على ما في الأعمال من تفاوت في استحقاق العقاب والله أعلم بمراده من عباده . وفعل الإِلحاق يقتضي أن الذريات صاروا في درجات آبائهم . وفي المخالفة بين الصيغتين تفنن لدفع إعادة اللفظ .
و { ألتناهم } نقصناهم ، يقال : آلته حقه ، إذا نقصه إياه ، وهو من باب ضرب ومن باب علم .
فقرأه الجمهور بفتح لام { ألتناهم } . وقرأه ابن كثير بكسر لام { ألِتناهم } ، وتقدم عند قوله تعالى : { لا يلتكم من أعمالكم شيئاً } في سورة الحجرات ( 14 ) . والواو للحال وضمير الغيبة عائد إلى { الذين آمنوا } .
والمعنى : أن الله ألحق بهم ذرياتهم في الدرجة في الجنة فضلاً منه على الذين آمنوا دون عوض احتراساً من أن يحسبوا أن إلحاق ذرياتهم بهم بعد عطاء نصيب من حسناتهم لذرياتهم ليدخلوا به الجنة على ما هو متعارف عندهم في فك الأسير ، وحَمالة الديات ، وخلاص الغارمين ، وعلى ما هو معروف في الانتصاف من المظلوم للظالم بالأخذ من حسناته وإعطائها للمظلوم ، وهو كناية عن عدم انتقاص حظوظهم من الجزاء على الأعمال الصالحة .
و { من عملهم } متعلق ب { ما ألتناهم } و ( من ) للتبعيض ، و ( من ) التي في قوله : { من شيء } لتوكيد النفي وإفادة الإِحاطة والشمول للنكرة .
{ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .
جملة معترضة بين جملة { وما ألتناهم من عملهم } وبين جملة { وأمددناهم بفاكهة } [ الطور : 22 ] ، قصد منها تعليل الجملة التي قبلها وهي بما فيها من العموم صالحة للتذييل مع التعليل ، و { كل امرىء } يعمّ أهل الآخرة كلهم . وليس المراد كل امرىء من المتقين خاصة .
والمعنى : انتفى إنقاصُنا إياهم شيئاً من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهَن عنده والمتقون لمّا كَسَبوا العمل الصالح كان لازماً لهم مقترناً بهم لا يُسلبون منه شيئاً ، والمراد بما كسبوا : جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس العمل نفسه فقد انقضى في إبانه .
وفي هذا التعليل كنايتان : إحداهما : أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم ، وثانيتهما : أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولولا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم . وبهذا كان لهذه الجملة هنا وقع أشد حسناً مما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال في التقديم: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} يعني من أدرك العمل من أولاد بني آدم المؤمنين فعمل خيرا فهم مع آبائهم في الجنة، ثم قال: {ألحقنا بهم ذريتهم} يعني الصغار الذين لم يبلغوا العمل من أولاد المؤمنين فهم معهم وأزواجهم في الدرجة لتقر أعينهم.
{وما ألتناهم من عملهم من شيء} يقول: وما نقصنا الآباء إذا كانوا مع الأبناء من عملهم شيئا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّياتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذرّياتهم المؤمنين في الجنة، وإن كانوا لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم، تكرمة لآبائهم المؤمنين، وما ألتنا آباءهم المؤمنين من أجور أعمالهم من شيء... عن ابن عباس، قال: إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذرّية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، ليقرّ بهم عينه، ثم قرأ «وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّياتِهِم وَما أَلَتْناهمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ»...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّيّاتهم التي بلغت الإيمان بإيمان، ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار التي لم تبلغ الإيمان، وما ألتنا الآباء من عملهم من شيء...
وقال آخرون نحو هذا القول، غير أنهم جعلوا الهاء والميم في قوله:"أَلْحَقْنا بِهِمْ "من ذكر الذرّية، والهاء والميم في قوله: ذرّيتهم الثانية من ذكر الذين. وقالوا: معنى الكلام: والذين آمنوا واتبعتهم ذرّيتهم الصغار، وما ألتنا الكبار من عملهم من شيء...
وقال آخرون: بل معنى ذلك "وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِم ذُرّيّتَهُمْ" فأدخلناهم الجنة بعمل آبائهم، وما ألتنا الآباء من عملهم من شيء... وقال آخرون: إنما عنى بقوله: «ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ»: أعطيناهم من الثواب ما أعطينا الآباء...
وأولى هذه الأقوال بالصواب وأشبهها بما دلّ عليه ظاهر التنزيل... هو: والذين آمنوا بالله ورسوله، وأتبعناهم ذرياتهم الذين أدركوا الإيمان بإيمان، وآمنوا بالله ورسوله، ألحقنا بالذين آمنوا ذريتهم الذين أدركوا الإيمان فآمنوا، في الجنة فجعلناهم معهم في درجاتهم، وإن قصرت أعمالهم عن أعمالهم تكرمة منا لآبائهم، وما ألتناهم من أجور عملهم شيئا.
وإنما قلت: ذلك أولى التأويلات به، لأن ذلك الأغلب من معانيه، وإن كان للأقوال الآخر وجوه...
وقوله: "وما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ" يقول تعالى ذكره: وما ألتنا الآباء، يعني بقوله: "وَما ألَتْناهُمْ": وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئا، فنأخذه منهم، فنجعله لأبنائهم الذين ألحقناهم بهم، ولكنا وفّيناهم أجور أعمالهم، وألحقنا أبناءهم بدرجاتهم، تفضلاً منا عليهم. والألت في كلام العرب: النقص والبخس... عن سعيد بن جُبَير "وَما أَلَتْناهُمْ" قال: وما ظلمناهم.
وقوله: "كُل امْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ" يقول: كلّ نفس بما كسبت وعملت من خير وشرّ مرتهنة لا يؤاخذ أحد منهم بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. يُكْملُ عليهم سرورهم بأَنْ يُلْحِق بهم ذُرِّياتِهم؛ فإنَّ الانفرادَ بالنعمة عَمَّنْ القلبُ مشتغِلٌ به من الأهل والولد والذرية يوجِب تَنَغص العيش...
{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}. أي ما أنقصنا من أجورهم من شيءٍ بل وفينا ووفَرنا. وفي الابتداء نحن أَوْليْنا وزدنا على ما أعطينا. {كُلُّ امْرئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} مُطَالَبٌ بعمله، يوفىَّ عليه أَجره بلا تأخير...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والذين ءامَنُواْ} معطوف على {بِحُورٍ عِينٍ} أي: قرناهم بالحور وبالذين آمنوا، أي: بالرفقاء والجلساء منهم...
{واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم}... فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، ومزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم... {بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم...
فإن قلت: ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت: معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة. ويجوز أن يراد: إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم... {كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي مرهون، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحاً فكها وخلصها.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولفظة {ألحقنا} تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم، زيادة في الرعاية والعناية. ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين، ما دامت هذه الذرية مؤمنة. وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم. ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه، إنما هو فضل الله على الجميع..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكونُ الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقِّنون أبناءهم الإِيمان. والمعنى: والمؤمنون الذين لهم ذرياتٌ مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم...
ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته. والتنكير في قوله: {بإيمان} يحتمل أن يكون للتعظيم، أي بإيمان عظيم، وعظمتُه بكثرة الأعمال الصالحة، فيكون ذلك شرطاً في إلحاقهم بآبائهم وتكون النعمة في جعلهم في مكان واحد...
وفعل الإِلحاق يقتضي أن الذريات صاروا في درجات آبائهم. و {كل امرئ} يعمّ أهل الآخرة كلهم. وليس المراد كل امرئ من المتقين خاصة. والمعنى: انتفى إنقاصُنا إياهم شيئاً من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهَن عنده والمتقون لمّا كَسَبوا العمل الصالح كان لازماً لهم مقترناً بهم لا يُسلبون منه شيئاً، والمراد بما كسبوا: جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس العمل نفسه فقد انقضى في إبانه. وفي هذا التعليل كنايتان: إحداهما: أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم، وثانيتهما: أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولولا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم. وبهذا كان لهذه الجملة هنا وقع أشد حسناً مما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} ليجتمع شمل المؤمنين العائلي، الذين أسسوا علاقاتهم العائلية على قاعدة الإيمان بالله لا على قاعدة العصبية، ما جعل الواحد منهم يدعو الآخر إلى الإسلام ويقوّي موقفه ويدعم موقعه. فالإيمان هو الذي يوحِّد بين الناس في الدنيا، ويجمعهم في مواقع رحمة الله في الآخرة...