يقول تعالى للكفار { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } أي : تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم ما سألتم ، كما قال محمد بن إسحاق وغيره ، عن الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُغَيْر ؛ أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أَقْطَعُنَا للرحم وآتانا بما لا نعرف{[12782]} فأحنه الغداة - وكان ذلك استفتاحا منه - فنزلت : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } إلى آخر الآية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد - يعني ابن هارون - أخبرنا محمد بن إسحاق ، حدثني الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة : أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان المستفتح .
وأخرجه النسائي في التفسير من حديث ، صالح بن كيسان ، عن الزهري ، به وكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق الزهري ، به{[12783]} وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . وروي [ نحو ]{[12784]} هذا عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، ويزيد بن رُومَان ، وغير واحد .
وقال السُّدِّي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بَدْر ، أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال الله : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } يقول : قد نصرت ما قلتم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو قوله تعالى إخبارا عنهم : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ] } [ الأنفال : 32 ] . {[12785]}
وقوله : { وَإِنْ تَنْتَهُوا } أي : عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة . [ وقوله ]{[12786]} { وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ } كقوله{[12787]} { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ]معناه : وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة ، نعد لكم بمثل هذه الواقعة .
وقال السدي : { وَإِنْ تَعُودُوا } أي : إلى الاستفتاح { نعد } إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والنصر له ، وتظفيره على أعدائه ، والأول أقوى .
{ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ } أي : ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا ، فإن من كان الله معه فلا غالب له ، فإن الله مع المؤمنين ، وهم الحزب النبوي ، والجناب المصطفوي .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } . .
يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ يعني : إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم وأظلم الفئتين ، وتستنصروه عليه ، فقد جاءكم حكم الله ونصره المظلوم على الظالم ، والمحقّ على المبطل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .
قال : حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ يعني بذلك المشركين ، إن تستنصروا فقد جاءكم المدد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن ابن عباس ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا قال : إن تستقضوا القضاء ، وإنه كان يقول : وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا قلت : للمشركين ؟ قال : لا نعلمه إلاّ ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : كفار قريش في قولهم : ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ، ففتح بينهم يوم بدر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : استفتح أبو جهل ، فقال : اللهمّ يعني محمدا ونفسه أينا كان أفجر لك اللهمّ وأقطع للرحم فأَحِنْهُ اليوم قال الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : استفتح أبو جهل بن هشام ، فقال : اللهمّ أينا كان أفجر لك وأقطع للرحم فأحنه اليوم يعني محمدا عليه الصلاة والسلام ونفسه . قال الله عزّ وجلّ : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ فضربه ابنا عفراء : عوف ومعوّذ ، وأجهز عليه ابن مسعود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدويّ حليف بني زهرة ، أن المستفتح يومئذٍ أبو جهل ، وأنه قال حين التقى القوم : أينا أقطع للرحم وآتانا بما لا يُعرف فأَحِنْهُ الغداة فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . الاَية ، يقول : قد كانت بدر قضاء وعبرة لمن اعتبر .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان المشركون حين خرجوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة ، أخذوا بأستار الكعبة ، واستنصروا الله ، وقالوا : اللهمّ انصر أعزّ الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين فقال الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ يقول : نصرت ما قلتم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . إلى قوله : وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وذلك حين خرج المشركون ينظرون عيرهم ، وإن أهل العير أبا سفيان وأصحابه أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم ، فقال أبو جهل : أينا كان خيرا عندك فانصره وهو قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا يقول : تستنصروا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ قال : إن تستفتحوا العذاب ، فعذّبوا يوم بدر ، قال : وكان استفتاحهم بمكة ، قالوا : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمِ قال : فجاءهم العذاب يوم بدر . وأخبر عن يوم أُحد : وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عطية ، قال : قال أبو جهل يوم بدر : اللهمّ انصر أهدى الفئتين ، وخير الفئتين وأفضل فنزلت : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .
قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهريّ ، أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم بدر وقال : اللهمّ أينا كان أفجر وأقطع لرحمه ، فأحِنْهُ اليوم فأنزل الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .
قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير : أن أبا جهل ، قال يوم بدر : اللهمّ أقطعنا لرحمه ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحِنْه الغداة وكان ذلك استفتاحا منه ، فنزلت : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . الاَية .
قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهريّ ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، قال : كان المستفتح يوم بدر أبا جهل ، قال : اللهمّ أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة فأنزل الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن مسلم الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير ، حليف بني زهرة ، قال : لما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل : اللهمّ أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه .
قال ابن إسحاق : فقال الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ لقول أبي جهل : اللهمّ أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه للغداة قال : الاستفتاح : الإنصاف في الدعاء .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن يزيد بن رومان وغيره ، قال أبو جهل يوم بدر : اللهمّ انصر أحبّ الدينين إليك ، ديننا العتيق ، أم دينهم الحديث فأنزل الله : إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ . . . إلى قوله : وَأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ .
وأما قوله : وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فإنه يقول : وإن تنتهوا يا معشر قريش وجماعة الكفار عن الكفر بالله ورسوله ، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم . وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ يقول : وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال أتباعه المؤمنين ، نَعُدْ : أي بمثل الواقعة التي أُوقعت بكم يوم بدر .
وقوله : وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ يقول : وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم ، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسبيكم وهزمكم فئتكم شيئا ولو كثرت ، يعني جندهم وجماعتهم من المشركين ، كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئا . وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ يقول جلّ ذكره : وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم ، ينصرهم عليهم ، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، في قوله : وَإنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال : يقول لقريش : وإن تعودوا نعد لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم بدر . وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ : أي وإن كثر عددكم في أنفسكم لن يغني عنكم شيئا ، وأن الله مع المؤمنين ينصرهم على من خالفهم .
وقد قيل : إن معنى قوله : وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ وإن تعودوا للاستفتاح نعد لفتح محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا القول لا معنى له لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه الصلاة والسلام حين أذن له في حرب أعدائه إظهار دينه وإعلاء كلمته من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه ، فلا وجه لأن يقال والأمر كذلك إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم وإن تعودوا نعد لأن الله قد كان وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الفتح بقوله : أُذنَ للّذينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا وإنّ اللّهَ على نَصْرهِمْ لَقَديرٌ استفتح المشركون أو لم يستفتحوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإنْ تَعُودُوا نَعُدْ : إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم . وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ : محمد وأصحابه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ ففتحها عامة قرّاء أهل المدينة ، بمعنى : ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ، وأن الله مع المؤمنين . فعطف ب «أنّ » على موضع «ولو كثرت » كأنه قال : لكثرتها ، ولأن الله مع المؤمنين ويكون موضع «أن » حينئذٍ نصبا على هذا القول . وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت على : وأنّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدَ الكافِرِينَ ، وأنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ عطفا بالأخرى على الأولى . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين والبصريين : «وإنّ اللّهَ » بكسر الألف على الابتداء ، واعتلوا بأنها في قراءة عبد الله : «وَإنّ اللّهَ لَمَعَ المُؤْمِنِينَ » .
وأولى القراءتين بالصواب ، قراءة من كسر «إن » للابتداء ، لتقضي الخبر قبل ذلك عما يقتضي قوله : وَإنّ اللّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ .
{ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم ، وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين . { وإن تنتهوا } عن الكفر ومعاداة الرسول { فهو خير لكم } لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين . { وإن تعودوا } لمحاربته . { نعد } لنصرته عليكم . { ولن تغني } ولن تدفع . { عنكم فئتكم } جماعتكم . { شيئا } من الإغناء أو المضار . { لو كثرت } فئتكم . { وأن الله مع المؤمنين } بالنصر والمعونة . وقرأ نافع وابن عامر وحفص { وأن } بالفتح على تقدير ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك . وقيل الآية خطاب للمؤمنين والمعنى : أن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يستأثره الرسول فهو خير لكم وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو ، ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فإنه مع الكاملين في إيمانهم ويؤيد ذلك : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه } .
قال بعض المتأولين : هذه الآية مخاطبة للمؤمنين الحاضرين بوم بدر ، قال الله لهم : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } وهو الحكم بينكم وبين الكافرين فقد جاءكم ، وقد حكم الله لكم ، { وإن تنتهوا } عما فعلتم من الكلام في أمر الغنائم وما شجر بينكم فيها وعن تفاخركم بأفعالكم من قتل وغيره فهو خير لكم { وإن تعودوا } لهذه الأفعال نعد لتوبيخكم ، ثم أعلمهم أن الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله تعالى ومعونته ، ثم أنسهم بقوله وإيجابه ، أنه مع المؤمنين ، وقال أكثر المتأولين : هذه الآية مخاطبة للكفار أهل مكة ، وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يدعو أبداً في محافل قريش ، ويقول اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأهلكه واجعله المغلوب ، يريد محمداً صلى الله عليه وسلم وإياهم ، وروي أن قريشاً لما عزموا على الخروج إلى حماية العير تعلقوا بأستار الكعبة واستفتحوا ، وروي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر : اللهم انصر أحب الفئتين إليك وأظهر خير الدينين عندك ، اللهم أقطعنا للرحم فأِحْنه الغداة{[5272]} ، ونحو هذا فقال لهم الله ، إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم أي كما ترونه عليكم لا لكم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا توبيخ ، ثم قال لهم { وإن تنتهوا } عن كفركم وغيكم { فهو خير لكم } ثم أخبرهم أنهم إن عادوا للاستفتاح عاد بمثل الوقعة يوم بدر عليهم ، ثم أعلمهم أن فئتهم لا تعني شيئاً وإن كانت كثيرة ، ثم أعلمهم أنه مع المؤمنين .
وقالت فرقة من المتأولين : قوله { وإن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } ، هي مخاطبة للمؤمنين ، وسائر الآية مخاطبة للمشركين ، كأنه قال وأنتم إن تنتهوا فهو خير لكم ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وأبي عمرو وحمزة والكسائي «وإن الله » بكسر الهمزة على القطع ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص «وأن » بفتح الألف ، فإما أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محتمل المعنى ، وفي قراءة ابن مسعود : «ولو كثرت والله مع المؤمنين » . وهذا يقوي قراءة من كسر الألف ، من «إن » .