وقوله : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا } ، قال قتادة : يعني : الشجر .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } ، أي : حصونا ومعاقل ، كما : { جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، وهي : الثياب من القطن والكتان والصوف ، { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، كالدروع من الحديد المصفَّح والزَّرد وغير ذلك ، { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } ، أي : هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم ، وما تحتاجون إليه ، ليكون - عونًا لكم على طاعته وعبادته ، { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، هكذا فسره الجمهور ، وقرؤوه بكسر اللام من : " تسلمون " ، أي : من الإسلام . وقال قتادة في قوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ] }{[16621]} ، هذه السورة تسمى سورة النِّعَم . وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام ، عن حَنْظَلة السدوسي ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها " تَسلَمون " ، بفتح اللام ، يعني : من الجراح{[16622]} . رواه أبو عبيد القاسم بن سلام ، عن عباد ، وأخرجه ابن جرير من الوجهين ، وردَّ هذه القراءة{[16623]} .
وقال عطاء الخراساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } ، وما جعل [ لكم ]{[16624]} من السهل أعظم وأكثر{[16625]} ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال{[16626]} ؟ ألا ترى إلى قوله : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } ، وما جعل لكم من غير ذلك أعظم منه وأكثر{[16627]} ، ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشَعَر ، ألا ترى إلى قوله : { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } [ النور : 43 ] ، لعجبهم من ذلك ، وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر{[16628]} ، ولكنهم كانوا لا يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، وما يقي من البرد أعظم وأكثر{[16629]} ، ولكنهم كانوا أصحاب حر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن نعمة الله عليكم أيها الناس أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالاً تستظلّون بها من شدّة الحرّ ، وهي جمع ظلّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، عن قتادة ، في قوله : { مِمّا خَلَقَ ظِلالاً } قال : الشجر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً } ، إي والله ، من الشجر ومن غيرها .
وقوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا } يقول : وجعل لكم من الجبال مواضع تسكنون فيها ، وهي جمع كِنّ كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا } ، يقول : غيرانا من الجبال يسكن فيها .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرّ } ، يعني : ثياب القطن والكتان والصوف وقمصها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرّ } ، من القطن والكتان والصوف .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { سَرَابِيلَ تَقِيكُم الحَرّ } ، قال : القطن والكتان .
وقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، يقول : ودروعا تقيكم بأسكم ، والبأس : هو الحرب ، والمعنى : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، من هذا الحديد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } ، قال : هي سرابيل من حديد .
وقوله : { كذلكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، يقول تعالى ذكره : كما أعطاكم ربكم هذه الأشياء التي وصفها في هذه الآيات نعمة منه بذلك عليكم ، فكذا يتُمّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون . يقول : لتخضعوا لله بالطاعة ، وتذلّ منكم بتوحيده النفوس ، وتخلصوا له العبادة . وقد رُوِي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «لَعَلّكُمْ تَسْلَمُونَ » ، بفتح التاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن حنظلة ، عن شهر بن حَوْشب ، قال : كان ابن عباس يقول : «لَعَلّكُمْ تَسْلَمُونَ » قال : يعني من الجراح .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن حنظلة السّدوسيّ ، عن شهر بن حَوْشب ، عن ابن عباس ، أنه قرأها : «لَعَلّكُمْ تَسْلَمُونَ » ، من الجرَاحات ، قال أحمد بن يوسف : قال أبو عبيدة : يعني بفتح التاء واللام .
فتأويل الكلام على قراءة ابن عباس هذه : كذلك يتمّ نعمته عليكم بما جعل لكم من السرابيل التي تقيكم بأسكم ، لتسلموا من السلاح في حروبكم . والقراءة التي أستجيز القراءة بخلافها بضم التاء من قوله : { لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، وكسر اللام من أسلمت تُسْلِم يا هذا ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليها .
فإن قال لنا قائل : وكيف جعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ ، فخصّ بالذكر الحرّ دون البرد ، وهي تقي الحرّ والبرد ؟ أم كيف قيل : { وجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا } ، وترك ذكر ما جعل لهم من السهل ؟ قيل له : قد اختُلف في السبب الذي من أجله جاء التنزيل كذلك ، وسنذكر ما قيل في ذلك ثم ندلّ على أولى الأقوال في ذلك بالصواب .
فرُوِي عن عطاء الخراساني في ذلك ما :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، قال : إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم ، ألا ترى إلى قول الله تعالى ذكره : { وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانا } ، وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال ، ألا ترى إلى قوله : { وَمِنْ أصْوَافِها وأوْبارِها وأشْعارِها أثاثا وَمَتاعا إلى حِينٍ } ؟ وما جعل لهم من غير ذلك أعظم منه وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب وَبَر وشَعَر ألا ترى إلى قوله : { ويُنَزّلُ مِنَ السّماءِ منْ جِبَالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ } ، يعجّبهم من ذلك ؟ وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفون به ، ألا ترى إلى قوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرّ } ، وما تقي من البرد أكثر وأعظم ؟ ولكنهم كانوا أصحاب حرّ .
فالسبب الذي من أجله خصّ الله تعالى ذكرهُ السرابيل بأنها تقي الحرّ دون البرد على هذا القول ، هو أن المخاطبين بذلك كانوا أصحاب حرّ ، فذكر الله تعالى ذكره نعمته عليهم بما يقيهم مكروه ما به عرفوا مكروهه دون ما لم يعرفوا مبلغ مكروهه ، وكذلك ذلك في سائر الأحرف الأُخَر . وقال آخرون : ذكر ذلك خاصة اكتفاء بذكر أحدهما من ذكر الآخر ، إذ كان معلوما عند المخاطبين به معناه ، وأن السرابيل التي تقي الحرّ تقي أيضا البرد ، وقالوا : ذلك موجود في كلام العرب مستعمل ، واستشهدوا لقولهم بقول الشاعر :
وَما أدْرِي إذا يَمّمْتُ وَجْها *** أُريدُ الخَيْرَ أيّهُما يَلِيِني
فقال : أيهما يليني : يريد الخير أو الشرّ ، وإنما ذكر الخير لأنه إذا أراد الخير فهو يتقي الشرّ .
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن القوم خوطبوا على قدر معرفتهم ، وإن كان في ذكر بعض ذلك دلالة على ما ترك ذكره لمن عرف المذكور والمتروك ؛ وذلك أن الله تعالى ذكره إنما عدّد نعمه التي أنعمها على الذين قُصدوا بالذكر في هذه السورة دون غيرهم ، فذكر أياديه عندهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.