تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (178)

ثم قال تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } كقوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] ، وكقوله { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] ، وكقوله { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (178)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوَاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مّهِينٌ }

يعني بذلك تعالى ذكره : ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله ، وما جاء به من عند الله ، أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم . ويعني بالإملاء : الإطالة في العمر والإنساء في الأجل¹ ومنه قوله جل ثناؤه : { وَاهجُرْنِي مَلِيّا } : أي حينا طويلاً¹ ومنه قيل : عشت طويلاً وتمليت حينا والملا نفسه : الدهر ، والملوان : الليل والنهار ، ومنه قول تميم بن مقبل :

ألا يا دِيارَ الحَيّ بالسّبُعانِ *** أمَلّ عَلَيها بالبِلَى المَلَوَانِ

يعني بالملوان : الليل والنهار .

وقد اختلفت القراء في قراءة قوله : «وَلا تَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُملِيَ لهُمْ خَيرٌ لأَنفُسِهِمْ » فقرأ ذلك جماعة منهم : { وَلا يَحسَبنّ } بالياء وفتح الألف من قوله { أنّمَا } على المعنى الذي وصفت من تأويله . وقرأه آخرون : «وَلا تَحسَبنّ » بالتاء و{ أنّمَا } أيضا بفتح الألف من «أنما » ، بمعنى : ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم .

فإن قال قائل : فما الذي من أجله فتحت الألف من قوله : { أنّمَا } في قراءة من قرأ بالتاء ، وقد علمت أن ذلك إذا قرىء بالتاء فقد أعلمت تحسبنّ في الذين كفروا ، وإذا أعملتها في ذلك لم يجز لها أن تقع على «أنما » لأن «أنّما » إنما يعمل فيها عامل يعمل في شيئين نصبا ؟ قيل : أما الصواب في العربية ووجه الكلام المعروف من كلام العرب كسر إن قرئت تحسبن بالتاء ، لأن تحسبن إذا إذا قرئت بالتاء ، فإنها قد نصبت الذين كفروا ، فلا يجوز أن تعمل وقد نصبت اسما في أن ، ولكنى أظن أن من قرأ ذلك بالتاء في تحسبن وفتح الألف من أنما ، إنما أراد تكرير تحسبن على أنما ، كأنه قصد إلى أن معنى الكلام : ولا تحسبن يا محمد أنت الذين كفروا ، لا تحسبن أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، كما قال جل ثناؤه : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغتَةً } بتأويل : هل ينظرون إلا الساعة ، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة ؟ وذلك وإن كان وجها جائزا في العربية ، فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأ : { وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا } بالياء من «يحسبن » ، وبفتح الألف من «أنما » ، على معنى الحسبان للذين كفروا دون غيرهم ، ثم يعمل في «أنما » نصبا¹ لأن «يحسبن » حينئذ لم يشغل بشيء عمل فيه ، وهي تطلب منصوبين . وإنما اخترنا ذلك لإجماع القراء على فتح الألف من «أنما » الأولى ، فدل ذلك على أن القراءة الصحيحة في «يحسبن » بالياء لما وصفنا¹ وأما ألف «إنما » الثانية فالكسر على الابتداء بالإجماع من القراء عليه .

وتأويل قوله : { إنّمَا نُملِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْما } : إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثما ، يقول : يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر { ولَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } يقول : ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الاَخرة عقوبة لهم مهينة مذلة .

وبنحو ما قلنا في ذلك جاء الأثر .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن الأسود ، قال : قال عبد الله : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها ، وقرأ : { وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُملِي لَهُمْ خَيرٌ لأَنْفُسِهِمْ إنّمَا نُملِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْما } وقرأ : { نُزُلاً مِنْ عِندِ الله وما عِندَ اللّهِ خَيرٌ للأبرَارِ } .