مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (178)

قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين }

اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد ، والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت إليها ، وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله ، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد ، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة ، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل . فهذا بيان وجه النظم ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو { ولا يحسبن الذين كفروا } { ولا يحسبن الذين يبخلون } { لا تحسبن الذين يفرحون } { فلا تحسبنهم } في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله : { تحسبنهم } وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله : { فلا تحسبنهم } فإنه بالتاء ، وقرأ حمزة كلها بالتاء ، واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة ، أما الذين قرأوا بالياء المنقطة من تحت : فقوله : { يحسبن } فعل ، وقوله : { الذين كفروا } فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت ، وقوله : حسبت أن زيدا منطلق ، وحسبت أن يقوم عمرو ، فقوله في الآية : { أنما نملى لهم خير لأنفسهم } يسد مسد المفعولين ، ونظيره قوله تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون } وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج ، وهو أن { الذين كفروا } نصب بأنه المفعول الأول ، و { أنما نملى لهم } بدل عنه . و { خير لأنفسهم } هو المفعول الثاني والتقدير : ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم . ومثله مما جعل «أن » مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } فقوله : { أنها لكم } بدل من إحدى الطائفتين .

المسألة الثانية : «ما » في قوله : { أنما } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن الذين نمليه خير لأنفسهم ، وحذف الهاء من «نملي » لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك : الذي رأيت زيد ، والآخر : أن يقال : «ما » مع ما بعدها في تقدير المصدر ، والتقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير .

المسألة الثالثة : قال صاحب «الكشاف » : «ما » مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة ، واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب ، وأما في قوله : { أنما نملى لهم } فههنا يجب أن تكون متصلة لأنها كافة بخلاف الأولى .

المسألة الرابعة : معنى «نملي » نطيل ونؤخر ، والإملاء الإمهال والتأخير ، قال الواحدي رحمه الله : واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان ، يقال : ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد ، قال الأصمعي : يقال : أملى عليه الزمان أي طال ، وأملى له أي طول له وأمهله ، قال أبو عبيدة : ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار .

المسألة الخامسة : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه : الأول : أن هذا الإملاء عبارة عن إطالة المدة ، وهي لا شك أنها من فعل الله تعالى ، والآية نص في بيان أن هذا الإملاء ليس بخير ، وهذا يدل على أنه سبحانه فاعل الخير والشر . الثاني : أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الإملاء هو أن يزدادوا الإثم والبغي والعدوان ، وذلك يدل على أن الكفر والمعاصي بإرادة الله ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : { ولهم عذاب مهين } أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين . الثالث : أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الإملاء ، أنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان ، والإتيان بخلاف مخبر الله تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال ، وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الإملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم . قالت المعتزلة :

أما الوجه الأول : فليس المراد من هذه الآية أن هذا الإملاء ليس بخير ، إنما المراد أن هذا الإملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد ، لأن كل هذه الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة ، فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء ، ولا يلزم من نفي كون هذا الإملاء أكثر خيرية من ذلك القتل ، أن لا يكون هذا الإملاء في نفسه خيرا .

وأما الوجه الثاني : فقد قالوا : ليس المراد من الآية أن الغرض من الإملاء إقدامهم على الكفر والفسق بدليل قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } بل الآية تحتمل وجوها من التأويل : أحدها : أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى : { فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } وقوله : { ولقد ذرأنا لجهنم } وقوله : { وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله } وهم ما فعلوا ذلك لطلب الإضلال ، بل لطلب الاهتداء ، ويقال : ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك ، وثانيها : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وثالثها : أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الإمهال إلا تماديا في الغي والطغيان ، أشبه هذا حال من فعل الإملاء لهذا الغرض والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز . ورابعها : وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله : { ليزدادوا إثما } غير محمول على الغرض بإجماع الأمة ، أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال الله بالأغراض ، وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل الله معلل بغرض التعب والإيلام ، بل عندنا أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الإحسان ، وإذا كان كذلك فقد حصل الإجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض ، وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال ، ثم بعد هذا : قول القائل : ما المراد من هذه اللام غير ملتفت إليه ، لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل ، فإذا بطل ذلك سقط استدلاله .

وأما الوجه الثالث : وهو الإخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع الله منه ، ويلزم أن يكون الله موجبا لا مختارا ، وهو بالإجماع باطل .

والجواب عن الأول : أن قوله : { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير } معناه نفي الخيرية في نفس الأمر ، وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر ، لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح ، فلما لم يذكر الله ههنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر .

وأما السؤال الثاني : وهو تمسكهم بقوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وبقوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع } .

فجوابه : أن الآية التي تمسكنا بها خاص ، والآية التي ذكرتموها عام ، والخاص مقدم على العام .

وأما السؤال الثالث : وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر ، وأيضا فإن البرهان العقلي يبطله ؛ لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان ، كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم الله واجب ، وعدم حصوله محال ، وإرادة المحال محال ، فيمتنع أن يريد منهم الإيمان ، ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان ، وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة .

وأما السؤال الرابع : وهو التقديم والتأخير .

فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : أن التقديم والتأخير ترك للظاهر . وثانيها : قال الواحدي رحمه الله : هذا إنما يحسن لو جازت قراءة { أنما نملى لهم خير لأنفسهم } بكسر «إنما » وقراءة { إنما نملى لهم ليزدادوا إثما } بالفتح . ولم توجد هذه القراءة ألبتة . وثالثها : أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد الله من هذا الإملاء حصول الطغيان لا حصول الإيمان ، فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع .

وأما السؤال الخامس : وهو قوله : هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل .

فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال الله لغرض يصدر من العباد ، فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع ، وأيضا قوله : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الإملاء إيصال الخير لهم والإحسان إليهم ، والقوم لا يقولون بذلك ، فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه .

وأما السؤال السادس : وهو المعارضة بفعل الله تعالى .

فالجواب : أن تأثير قدرة الله في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه ، فلم يمكن أن يكون العلم مانعا عن القدرة . أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم الله بعدمه ، فصلح أن يكون هذا العلم مانعا للعبد عن الفعل ، فهذا تمام المناظرة في هذه الآية .

المسألة السادسة : اتفق أصحابنا أنه ليس لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية ، وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية ، اختلف فيه قول أصحابنا ، فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية ، وقالوا هذه الآية دالة على أن إطالة العمر وإيصاله إلى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة ، لأنه تعالى نص على أن شيئا من ذلك ليس بخير ، والعقل أيضا يقرره وذلك لأن من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فإنه لا يعد ذلك إلا طعام إنعاما ، فإذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة ، وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر ، وأنه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات إلا أن نقول : تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة والله أعلم .