فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (178)

قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ } قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وغيرهما : { يَحْسَبَنَّ } بالياء التحتية ، وقرأ حمزة بالفوقية ، والمعنى على الأولى : لا يحسبن الكافرون أنما نملي لهم بطول العمر ، ورغد العيش ، أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد { خَيْرٌ لأِنفُسِهِمْ } فليس الأمر كذلك بل { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين } . وعلى القراءة الثانية : لا تحسبن يا محمد أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم ، بل هو شرّ واقع عليهم ، ونازل بهم ، وهو أن الإملاء الذي نمليه لهم ؛ ليزدادوا إثماً ، فالموصول على القراءة الأولى فاعل الفعل ، وأنما نملي ، وما بعده ساد مسد مفعولي الحسبان عند سيبويه ، أو سادّ مَسَدَّ أحدهما ، والآخر محذوف عند الأخفش .

وأما على القراءة الثانية ، فقال الزجاج : إن الموصول هو : المفعول الأول ، وإنما ، وما بعدها بدل من الموصول سادّ مسدّ المفعولين ، ولا يصح أن يكون إنما ، وما بعده هو المفعول الثاني ؛ لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو : الأوّل في المعنى . وقال أبو علي الفارسي : لو صح هذا لكان خيراً بالنصب ؛ لأنه يصير بدلاً من الذين كفروا ، فكأنه قال : لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيراً . وقال الكسائي ، والفراء : إنه يقدر تكرير الفعل كأنه قال : ولا تحسبنّ الذين كفروا ، ولا تحسبن إنما نملي لهم ، فسدت مسدّ المفعولين . وقال في الكشاف : فإن قلت كيف صح مجيء البدل ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد ؟ قلت : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل ، والمبدل منه في حكم المنحي ، ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك . انتهى . وقرأ يحيى بن وثاب : { إنَّمَا نُمْلِي } بكسر إن فيهما ، وهي قراءة ضعيفة باعتبار العربية .

وقوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً } جملة مستأنفة مبينة لوجه الإملاء للكافرين . وقد احتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما تقوله المعتزلة ؛ لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار الكفار ، ويجعل عيشهم رغداً ؛ ليزدادوا إثماً . قال أبو حاتم : وسمعت الأخفش يذكر كسر : { إنَّمَا نُمْلِي } الأولى ، وفتح الثانية ، ويحتج بذلك لأهل القدر ؛ لأنه منهم ، ويجعله على هذا التقدير : ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم ؛ ليزدادوا إثماً إنما نملي لهم خير لأنفسهم . وقال في الكشاف : إن ازدياد الإثم علة ، وما كل علة بعرض ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز ، والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء يعرض لك ، وإنما هي علل ، وأسباب .

/خ180