تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا} (83)

وقوله : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها ، فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة .

وقد قال مسلم في " مقدمة صحيحه " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا شعبة ، عن خبيب{[7935]} بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكل ما سمع " وكذا رواه أبو داود في كتاب " الأدب " من سننه ، عن محمد بن الحسين بن إشكاب ، عن علي بن حفص ، عن شعبة مسندًا{[7936]} ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري ، وعبد الرحمن بن مهدي . وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري ، ثلاثتهم عن شعبة ، عن خُبَيب{[7937]} عن حفص بن عاصم ، به مرسلا{[7938]} .

وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي : الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت ، ولا تَدبُّر ، ولا تبَيُّن{[7939]} .

وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا عليه " .

وفي الصحيح : " من حَدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن " . {[7940]} ويذكر{[7941]} هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه ، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه ، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك ، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه : أطلقت نساءك ؟ قال : " لا " . فقلت الله أكبر . وذكر الحديث{[7942]} بطوله .

وعند مسلم : فقلت : أطلقتهن ؟ فقال : " لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر .

ومعنى قوله : ( يستنبطونه ) أي : يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها{[7943]} .

ومعنى قوله : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المؤمنين .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } يعني : كلكم . واستشهد من نصر هذا القول . بقول الطرماح بن حكيم ، في مدح يزيد بن المُهَلَّب :

أشَمَّ{[7944]} كثير يُدَيِّ النوال{[7945]}*** قليل المَثَالب والقَادحة{[7946]}

يعني : لا مثالب له ، ولا قادحة فيه .


[7935]:في ر، أ: "حبيب".
[7936]:صحيح مسلم برقم (5) وسنن أبي داود برقم (4992).
[7937]:في أ: "حبيب".
[7938]:صحيح مسلم برقم (5) وسنن أبي داود برقم (4992).
[7939]:صحيح البخاري برقم (1477) وصحيح مسلم برقم (593).
[7940]:رواه مسلم في مقدمة صحيحه (ص9) والترمذي في السنن برقم (2662) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[7941]:في ر: "ونذكر".
[7942]:صحيح البخاري برقم (5191) وصحيح مسلم برقم (1479).
[7943]:في ر: "قرارها".
[7944]:في أ: "أنتم".
[7945]:في أ: "البوداي".
[7946]:البيت في تفسير الطبري (8/577).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا} (83)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَىَ أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِه } وإذا جاء هذه الطائفة المبيتة غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من الأمن . فالهاء والميم في قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ } من ذكر الطائفة المبيتة . يقول جلّ ثناؤه : وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوّهم بغلبتهم إياهم { أو الخَوْفِ } يقول : أو تخّوفهم من عدوّهم بإصابة عدوّهم منهم { أذَاعُوا بِهِ } يقول : أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم . والهاء في قوله : { أذَاعُوا بِهِ } من ذكر الأمر وتأويله : أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف الذي جاءهم ، يقال : منه أذاع فلان بهذا الخبر وأذاعه ، ومنه قول أبي الأسود :

أذَاعَ بِه في النّاسِ حتى كأنّهُ ***بعَلْياءَ نارٌ أُوقِدَتْ بثَقُوبِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : سارعوا به وأفشوه .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوّهم ، أو أنهم خائفون منهم ، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوّهم أمرهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : أفشوه وشنعوا به .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } قال : هذا في الأخبار إذا غزت سرية من المسلمين خُبّر الناس عنها ، فقالوا : أصاب المسلمون من عدوّهم كذا وكذا ، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا . فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم به . قال ابن جريج : قال ابن عباس : قوله { أذَعُوا بِهِ } قال : أعلنوه وأفشوه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أذَاعُوا بِهِ } قال : نشروه . قال : والذين أذاعوا به قوم ، إما منافقون ، وإما آخرون ضعفاء .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أفْشَوْه وشنعوا به ، وهم أهل النفاق .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : ولو ردّوه : الأمر الذي نالهم من عدوّهم والمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أولي أمرهم ، يعني : وإلى أمرائهم ، وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر ، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذوو أمرهم هم الذين يقولون الخبر عن ذلك ، بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بُطُوله ، فيصححوه إن كان صحيحا ، أو يبطلوه إن كان باطلاً . { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يقول : لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به الذين يبحثون عنه ، ويستخرجونه منهم ، يعني : أولي الأمر . والهاء والميم في قوله : { مِنْهُمْ } من ذكر أولي الأمر . يقول : لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه . وكل مستخرج شيئا كان مستترا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب ، فهو له مستنبط ، يقال : استنبطت الركية : إذا استخرجت ماءها ، ونَبَطتها أنبطها ، والنبط : الماء المستنبط من الأرض ، ومنه قول الشاعر :

قَرِيبٌ ثراهُ ما يَنالُ عَدُوّهُ ***لَهُ نَبَطا آبي الهَوَانِ قَطُوبُ

يعني بالنبط : الماء المستنبط .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } يقول : ولو سكتوا وردّوا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وإلى أولى أمرهم حتى يتكلم هو به ، { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } يعني عن الأخبار ، وهم الذين ينقّرون عن الأخبار .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } يقول : إلى علمائهم ، { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } لعلمه الذين يَفْحصُون عنه ، ويهمهم ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ } حتى يكون هو الذي يخبرهم ، { وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } : أولي الفقه في الدين والعقل .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } : يتتبعونه ويتحسسونه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا ليث ، عن مجاهد : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قال : الذين يسألون عنه ويتحسسونه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { يَسْتَنْبِطُونَهُ } قال : قولهم : ما كان ؟ ماذا سمعتم ؟

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { الّذِينَ يسْتَنبِطونَهُ } قال : يتحسسونه .

حدثني محمد بن سيعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يقول : لعلمه الذين يتحسسونه منهم .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قال : يتتبعونه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ أذَاعُوا بِه } . . . حتى بلغ : { وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } قال : الولاة الذين يكونون في الحرب عليهم الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر أصدق أم كذب ؟ أباطل فيبطلونه ، أو حقّ فيحقونه ؟ قال : وهذا في الحرب ، وقرأ : { أذَاعُوا بِهِ وَلَوْ } فعلوا غير هذا و{ رَدّوهُ } إلى الله و{ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } . . . الاَية .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولولا إنعام الله عليكم أيها المؤمنون بفضله وتوفيقه ورحمته ، فأنقذكم مما ابتلى هؤلاء المنافقين به ، الذين يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر : طاعة ، فإذا برزوا من عنده بيّت طائفة منهم غير الذي تقول ، لكنتم مثلهم ، فاتبعتم الشيطان إلا قليلاً ، كما اتبعه الذين وصف صفتهم . وخاطب بقوله تعالى ذكره : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ } الذين خاطبهم بقوله جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعا } .

ثم اختلف أهل التأويل في القليل الذي استثناهم في هذه الاَية ، من هم ، ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم ؟ فقال بعضهم : هم المستنبطون من أولي الأمر ، استثناهم من قوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ونفي عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : إنما هو لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، إلا قليلاً منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم . وأما قوله : { إلاّ قَلِيلاً } فهو كقوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } إلا قليلاً .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } قال : يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم¹ وأما { إلاّ قَلِيلاً } فهو كقوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ . . . إلاّ قَلِيلاً } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج نحوه ، يعني نحو قول قتادة ، وقال : لعلموه إلا قليلاً .

وقال آخرون : بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة ، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا . ومعنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، إلا قليلاً منهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ } فانقطع الكلام ، وقوله : { إلاّ قَلِيلاً } فهو في أوّل الاَية يخبر عن المنافقين ، قال : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ } إلا قليلاً ، يعني بالقليل المؤمنين ، يقول الحَمْدُ لله الّذِي أنْزَلَ الكِتَابَ عدلاً قِيما ، ولم يجعل له عوجا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هذه الاَية مقدمة ومؤخرة ، إنما هي : أذاعوا به إلا قليلاً منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير .

وقال آخرون : بل ذلك استثناء من قوله : { لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ } وقالوا : الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الاَخرون همّوا به من اتباع الشيطان ، فعرّف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم ، واستثنى الاَخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الاَخرين . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } قال : هم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان ، إلا طائفة منهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا . قالوا : وقوله : { إلاّ قَلِيلاً } خرج مخرج الاستثناء في اللفظ ، وهو دليل على الجميع والإحاطة ، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحد من الضلالة ، فجعل قوله : { إلاّ قَليلاً } دليلاً على الإحاطة . واستشهدوا على ذلك بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب :

أشمّ كثيرُ يَدِيّ النّوال ***ِقليلُ المَثالِبِ والقادِحَهْ

قالوا : فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب ، ومعلوم أن معناه : أنه لا مثالب فيه ولا معايب¹ لأن من وصف رجلاً بأن فيه معايب وإن وصف الذي فيه المعايب بالقلة ، فإنما ذمه ولم يمدحه ، ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه . قالوا : فكذلك قوله : { لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } إنما معناه : لاتبعتم جميعكم الشيطان .

وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال : عنى باستثناء القليل من الإذاعة¹ وقال : معنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلاً ، ولو ردّوه إلى الرسول .

وإنما قلنا : إن ذلك أولى بالصواب لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا ، وغير جائز أن يكون من قول : { لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ } لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من تباع الشيطان ، وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب ، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب سبيل فنوجّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون : معنى ذلك : لاتبعتم الشيطان جميعا ، ثم زعم أن قوله : { إلاّ قَلِيلاً } دليل على الإحاطة بالجميع . هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل لا وجه له ، وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } لأن علم ذلك إذا ردّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم ، استوى في علم ذلك كل مستنبط حقيقة ، فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم وخصوص بعضهم بعلمه مع استواء جميعهم في علمه . وإذ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا ، ودخل هذه الأقوال الثلاثة ما بينا من الخلل ، فبّين أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع ، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من الإذاعة .