لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

قوله عز وجل : { سماعون للكذب أكّالون للسحت } نزلت في حكام اليهود مثل كعب بن الأشرف ونظرائه كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه ثم يريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيسمع الكذب ويأكل الرشوة وهي السحت وأصل السحت الاستئصال يقال : سحته إذا استأصلته وسميت الرشوة في الحكم سحتاً ، لأنها تستأصل دين المرتشي . والسحت كله حرام يحمل عليه شدة الشره وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة ومعلوم أن حالة الرشوة كذلك فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الراشي والمرتشي في الحكم " أخرجه الترمذي وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص . قال الحسن : إنما ذلك في الحاكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً أو يبطل عنك حقاً وقال ابن مسعود : الرشوة في كل شيء فمن شفع شفاعة ليرد بها حقاً أو يدفع بها ظلماً فأهدى بها إليه فقبل فهو سحت . فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم كفر قال الله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون .

قوله عز وجل : { فإن جاؤوك } يعني اليهود { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك سيئاً } خيَّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم فإن شاء حكم وإن شاء ترك قال الحسن ومجاهد والسدي نزلت في اليهوديين اللذين زنيا . وقال قتادة : نزلت في رجلين من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر . قال ابن زيد : كان حيي بن أخطب قد جعل للنضير ديتين وللقرظي دية واحدة لأنه كان من بني النضير فقالت قريظة : لا نرضى بحكم حيي ونتحاكم إلى محمد فأنزل الله هذه الآية يخير نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم .

( فصل )

اختلف علماء التفسير في حكم هذه الآية على قولين : أحدهما أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيراً فإن شاء حكم بينهم وإن شاء عرض عنهم ثم نسخ ذلك بقوله " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " فلزمه الحكم بينهم وزال التخير هذا القول مروي عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والسدي . والقول الثاني : إنها محكمة وحكام المسلمين بالخيار إذا ترافعوا إليهم فإن شاؤوا حكموا بينهم وإن شاؤوا أعرضوا عنهم وهذا القول مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري وبه ، قال أحمد : لأنه لا منافاة بين الآيتين .

أما قوله فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ففيه التخيير بين الحكم والإعراض . وأما قوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ففيه كيفية الحكم إذا حكم بينهم قال الإمام فخر الدين الرازي : ومذهب الشافعي ، إنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه لأن إمضاء حكم الإسلام صغاراً لهم . فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك وهو التخيير المذكور في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين وأما إذا تحاكم مسلم وذمي وجب على الحاكم بينهم لا يختلف القول فيه لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة والله أعلم .

قوله تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } يعني بالعدل والاحتياط { إن الله يحب المقسطين } يعني العادلين فيما ولوا وحكموا فيه ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " هذا من أحاديث الصفات فمن العلماء من قال فيه وفي أمثاله : نؤمن بها ولا نتكلم في تأويلها ولا نعرف معناها لكن نعتقد أن ظاهرها غير مراد وأن لها معنى يليق بالله . هذا مذهب جماهير السلف وطوائف من المتكلمين . ومنهم من قال : إنها تؤول بتأويل يليق بها وهذا قول أكثر المتكلمين . فعلى هذا قال القاضي عياض : المراد بكونه عن اليمين الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين وضده إلى اليسار قالوا واليمين مأخوذة من اليمن وقوله وكلتا يديه يمين مبني على أنه ليس المراد باليمين الجارحة تعالى الله عن ذلك فإنها مستحيلة في حقه تعالى وقوله : { وما ولوا } بفتح الواو وضم اللام المخففة هكذا ذكره الشيخ محيي الدين في شرح مسلم . قال : ومعناه وما كانت له عليه ولاية وهذا الفضل لمن عدل فيما تقلده من الأحكام والله أعلم .