يعني : من شر الشيطان . والمعنى : من شر ذي الوسواس ، فحذف المضاف . قاله الفراء . وهو ( بفتح الواو ) بمعنى الاسم ، أي الموسوس . و( بكسر الواو ) المصدر ، يعني الوسوسة . وكذا الزلزال والزلزال . والوسوسة : حديث النفس . يقال : وسوست إليهم نفسه وسوسة ووسوسة ( بكسر الواو ) . ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي : وسواس . وقال ذو الرمة :
فبات يُشْئِزُه ثَأَدٌ ويُسْهِرُه *** تَذَؤُّبُ الريح والوسواسُ والهِضَبُ{[16610]}
تسمع للحَلْيِ وسواسا إذا انصرفت *** كما استعان بريح عِشْرَقٌ زَجِلُ{[16611]}
وقيل : إن الوسواس الخناس ابن لإبليس ، جاء به إلى حواء ، ووضعه بين يديها ، وقال : اكفليه . فجاء آدم عليه السلام{[16612]} فقال : ما هذا ( يا حواء{[16613]} ) قالت : جاء عدونا بهذا ، وقال لي : اكفليه . فقال : ألم أقل لك : لا تطيعيه في شيء ، هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية ؟ وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع ، وعلق كل ربع على شجرة ، غيظا له ، فجاء إبليس فقال : يا حواء{[16614]} ، أين ابني ؟ فأخبرته بما صنع به آدم عليه السلام ، فقال : يا خناس ، فحيي فأجابه . فجاء به إلى حواء وقال : اكفليه ، فجاء آدم عليه السلام فحرقه بالنار ، وذر رماده في البحر ، فجاء إبليس ( عليه اللعنة ) فقال : يا حواء ، أين ابني ؟ فأخبرته بفعل آدم إياه ، فذهب إلى البحر ، فقال : يا خناس ، فحيي فأجابه . فجاء به إلى حواء الثالثة ، وقال : اكفليه . فنظر إليه آدم ، فذبحه وشواه ، وأكلاه جميعا . فجاء إبليس فسألها فأخبرته ( حواء ) . فقال : يا خناس ، فحيي فأجابه ، ( فجاء به ) من جوف آدم وحواء . فقال إبليس : هذا الذي أردت ، وهذا مسكنك في صدر ولد آدم ، فهو ملتقم قلب آدم ما دام غافلا يوسوس ، فإذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس . ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول بإسناد عن وهب بن منبه . وما أظنه يصح ، والله تعالى أعلم . ووصف بالخناس ؛ لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى : { فلا أقسم بالخنس }{[16615]} [ التكوير : 15 ] يعني النجوم ، لاختفائها بعد ظهورها . وقيل : لأنه يخنس إذا ذكر العبد الله ، أي يتأخر . وفي الخبر " إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا غفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس " أي تأخر وأقصر . وقال قتادة : " الخناس " : الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، فإذا غفل الإنسان{[16616]} وسوس له ، وإذا ذكر العبد ربه خنس . يقال : خنسته فخنس ، أي أخرته فتأخر ، وأخنسته أيضا . ومنه قول أبي العلاء الحضرمي أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وإن دَحَسُوا بالشر فاعفُ تكرُّمًا *** وإن خَنَسُوا عند{[16617]} الحديث فلا تَسَلْ
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان واضع خَطْمه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس " .
وقال ابن عباس : إذا ذكر الله العبد خنس من قلبه فذهب ، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومَنَّاه .
وقال إبراهيم التيمي : أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء .
وقيل : سمي خناسا ؛ لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله . والخنس : الرجوع . وقال الراجز :
وصاحبٍ يمْتَعِسُ{[16618]} امتِعاسا *** يزداد إن حيَّيْتَهُ{[16619]} خِنَاسَا
وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { الوسواس الخناس } وجهين : أحدهما : أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى . الثاني : أنه الخارج بالوسوسة من اليقين .
ولما أكمل الاستعاذة من جميع وجوهها التي مدارها الإحسان أو العظمة أو القهر أو الإذعان والتذلل ، ذكر المستعاذ منه فقال : { من شر الوسواس * } هو اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة ، والمراد الموسوس ، سمي بفعله مبالغة ؛ لأنه صفته التي هو غاية الضراوة عليها كما بولغ في العادل بتسميته بالعدل ، والوسوسة الكلام الخفي : إلقاء المعاني إلى القلب في خفاء وتكرير ، كما أن الكلمة الدالة عليها " وس " مكررة ، وأصلها صوت الحلي ، وحديث النفس ، وهمس الكلاب ، ضوعف لفظه مناسبة لمعناه ؛ لأن الموسوس يكرر ما ينفثه في القلب ويؤكده في خفاء ليقبل ، ومصدره بالكسر كالزلزال ، كما قال تعالى :{ وزلزلوا زلزالاً شديداً }[ الأحزاب : 11 ] ، وكل مضاعف من الزلزلة والرضرضة معناه متكرر ، والموسوس من الجن يجري من ابن آدم مجرى الدم كما في الصحيح ، فهو يوسوس بالذنب سراً ليكون أجلى ، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يواقعه الإنسان ، فإذا واقعه وسوس لغيره أن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك ، فإذا افتضح ازداد جرأة على أمثال ذلك ؛ لأنه يقول : قد وقع ما كنت أحذره من القالة ، فلا يكون شيء غير الذي كان ، وشره التحبيب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه حتى يشاكله في رذيلة الطبع وظلمة النفس ، فينشأ من ذلك شرور لازمة ومتعدية أضرها الكبر والإعجاب اللذان أهلكا الشيطان ، فيوقع الإنسان بها فيما أوقع نفسه فيه ، وينشأ من الكبر الحقد والحسد ، يترشح منه بطر الحق ، وهو عدم قبوله ، ومنه الكفر والفسوق والعصيان ، وغمص الناس - وهو احتقارهم- المعلوم من قول الشيطان{ أنا خير منه }[ الأعراف : 12 ] ، ومنه تنشأ الاستهانة بأولياء الله تعالى بترك احترامهم ، ومنع حقوقهم ، والاعتداء عليهم والظلم لهم ، ويترشح من الحقد الذي هو العداوة العظيمة إمساك الخير والإحسان وبسط اللسان واليد بكل سوء وإيذاء ، ويترشح من الحسد إفساد ذات البين كما يشير إليه{ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة }[ الأعراف : 20 ] الآية ، والكذب والمخادعة كما عرف به :{ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور }[ الأعراف : 21 ] ، ويترشح عن الإعجاب التسخط للقضاء والقدر كما آذن به :{ قال أأسجد لمن خلقت طيناً }[ الإسراء : 61 ] ، ومقابلة الأمر بالعلم بما أشعر به :{ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال }[ الحجر : 33 ] ، واستعمال القياس في مقابلة النص بما هدى إليه :{ أنا خير منه }[ الأعراف : 12 ] الآية ، واستعمال التحسين والتقبيح بما أفهمه { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون } ، والإذلال وهو الجرأة على المخالفات ، فينشأ عن ذلك شرور متعدية ، وهي السعي في إفساد العقائد والأخلاق والأعمال والأبدان والأرزاق ، ثم لا يزال يتحبب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه من هذه الخبائث ، وهو يوافقه فيها حتى يصير له أخلاقاً راسخة ، فيصير رديء الطبع ، فلا ينفع فيه العلاج ؛ بل لا يزيده إلا خبثاً كإبليس ، ومن كان أصله طيباً واكتسب ما يخالفه بسبب عارض كان ممكن الإزالة كالعلاج كما وقع لآدم عليه الصلاة والسلام .
ولما كان الملك الأعظم سبحانه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء ، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره سبحانه وتعالى ، فإنه يطرد الشيطان ، وينير القلب ويصفيه ، وصف سبحانه وتعالى فعل الموسوس عند استعمال الدواء إعلاماً بأنه شديد العداوة للإنسان ، ليشتد حذره منه ، وبعده عنه ، فقال : { الخناس * } أي الذي عادته أن يخنس ، أي يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرة بعد مرة ، كلما كان الذكر خنس ، وكلما بطل عاد إلى وسواسه ، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد ، فهو شديد النفور منه ، ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً ، كما ورد عن بعض السلف أن المؤمن ينفي شيطانه كما ينفي الرجل بعيره في السقر . قال البغوي : له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، ويقال : رأسه كرأس الحية ، واضع رأسه على يمين القلب يحدثه ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا لم يذكر الله رجع ووضع رأسه خزاه الله تعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.