{ شرع لكم } الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم . أي سن لكم من الشريعة ما وصى به أرباب الشرائع من مشاهير الأنبياء ؛ وأمرهم به أمرا مؤكدا ، وهو : { أن أقيموا الدين } أي توحيد الله والإيمان به ، وطاعة رسله فيما جاءوا به من الشرائع . والمراد بإقامته : قبوله والعمل به . { ولا تتفرقوا فيه } أي لا تختلفوا في الدين ، أي في هذه الأصول التي أجمعت عليها الشرائع الإلهية . { الله يجتبي إليه من يشاء } يصطفي ويختار لرسالته من يشاء من عباده [ آية 179 آل عمران ص 134 ] .
{ 13 } { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ }
هذه أكبر منة أنعم الله بها على عباده ، أن شرع لهم من الدين خير الأديان وأفضلها ، وأزكاها وأطهرها ، دين الإسلام ، الذي شرعه الله للمصطفين المختارين من عباده ، بل شرعه الله لخيار الخيار ، وصفوة الصفوة ، وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية ، أعلى الخلق درجة ، وأكملهم من كل وجه ، فالدين الذي شرعه الله لهم ، لا بد أن يكون مناسبا لأحوالهم ، موافقا لكمالهم ، بل إنما كملهم الله واصطفاهم ، بسبب قيامهم به ، فلولا الدين الإسلامي ، ما ارتفع أحد من الخلق ، فهو روح السعادة ، وقطب رحى الكمال ، وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم ، ودعا إليه من التوحيد والأعمال والأخلاق والآداب .
ولهذا قال : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } أي : أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه ، تقيمونه بأنفسكم ، وتجتهدون في إقامته على غيركم ، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان . { وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أي : ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه ، واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا ، وتكونون شيعا يعادي بعضكم بعضا مع اتفاقكم على أصل دينكم .
ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه ، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة ، كاجتماع الحج والأعياد ، والجمع والصلوات الخمس والجهاد ، وغير ذلك من العبادات التي لا تتم ولا تكمل إلا بالاجتماع لها وعدم التفرق .
{ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي : شق عليهم غاية المشقة ، حيث دعوتهم إلى الإخلاص للّه وحده ، كما قال عنهم : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وقولهم : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }
{ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ } أي يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته ومنه أن اجتبى هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم ، واختار لها أفضل الأديان وخيرها .
{ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } هذا السبب الذي من العبد ، يتوصل به إلى هداية الله تعالى ، وهو إنابته لربه ، وانجذاب دواعي قلبه إليه ، وكونه قاصدا وجهه ، فحسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب الهداية ، من أسباب التيسير لها ، كما قال تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ }
وفي هذه الآية ، أن الله { يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } مع قوله : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم ، وشدة إنابتهم ، دليل على أن قولهم حجة ، خصوصا الخلفاء الراشدين ، رضي الله عنهم أجمعين .
قوله تعالى :{ شرع لكم من الدين } بين وسن لكم ، { ما وصى به نوحاً } وهو أول أنبياء الشريعة . قال مجاهد : أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً . { والذي أوحينا إليك } من القرآن وشرائع الإسلام ، { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } واختلفوا في وجه الآية : فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام . وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات . وقال مجاهد : لم يبعث الله نبياً إلا أوصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة . فذلك دينه الذي شرع لهم . وقيل : هو التوحيد والبراءة من الشرك . وقيل : هو ما ذكر من بعد ، وهو قوله : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة . { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } من التوحيد ورفض الأوثان ثم قال : { الله يجتبي إليه من يشاء } يصطفي لدينه من عباده من يشاء ، { ويهدي إليه من ينيب } يقبل إلى طاعته .
ولما ثبت أن له كل شيء وأنه لا متصرف في الوجود سواه ، أنتج ذلك أنه لا ناهج لطرق الأديان التي هي أعظم الرزق وأعظم قاسمة للرزق غيره ، فأعلمهم أنه لم يشرع ديناً قديماً وحديثاً غير ما اتفقوا عليه وقت الشدائد . فقال دالاً على ما ختم به الآية التي قبلها من شمول علمه ومرغباً في لزوم ما هدى إليه ودل عليه : { شرع } أي طرق وسن طريقاً ظاهراً بيناً واضحاً { لكم } أيتها الأمة الخاتمة من الطرق الظاهرة المستقيمة { من الدين } وهو ما يعمل فيجازي عليه . ولما كان السياق للدين ، وكانوا هم المقصودين في هذا السياق بالأمر به ، لأن الشارع لهم قد أنتجه ، وكانوا لتقليدهم الآباء يرون أن ما كان منه أقدم كان أعظم وأحكم ، ذكر لهم أول الآباء المرسلين إلى المخالفين فقال : { ما } أي الذي { وصى به } توصية عظيمة بعد إعلامه بانه شرعه { نوحاً } في الزمان الأقدم كما ختم به على لسان الخاتم ، وأرسل به من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير لأنه لا يرضيه سواه ، فإن كنتم إنما تأنفون من الدخول في هذا الدين لحدوثه فإنه أقدم الأديان وكل ما سواه حادث مع أنه ما بعث نبياً من أنبيائكم ولا من غيرهم إلا به ومع أنه توفرت على الشهادة به الفطر الأولى دائماً والفطر اللاحقة حتى من القلوب العاتية في أوقات الشدائد أبداً فأدخلوا فيه على بصيرة .
ولما كان الإعجاز خاصاً بنا ، أبرزه في مظهر العظمة معبراً بالوحي ، وبالأصل في الموصلات ، ودالاً على زيادة عظمته بتقديمه على من كانوا قبله مع ترتيبهم عند ذكرهم على ترتيبهم في الوجود فقال : { والذي أوحينا إليك } وأفرد الضمير زيادة في عظمته دلالة على أنه لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم ، ودل على عظمه ما كان لإبراهيم وبنيه بما ظهر من آثاره بمظهر العظمة ، وعلى نقصه عما إلى نبينا صلى الله عليه وسلم بالتعبير بالوصية فقال : { وما وصينا } أي على ما لنا من العظمة الباهرة التي ظهرت بها تلك المعجزات { به إبراهيم } الذي نجيناه من كيد نمرود بالنار وغيرها ووهبنا له على الكبر إسماعيل وإسحاق ، وهو أعظم آباء العرب وهم يدعون أكبر بالآباء فليكونوا على ما وصيناه به { وموسى } الذي أنزلنا عليه التوراة موعظة وتفصيلاً لكل شيء { وعيسى } الذي أنزلنا عليه الإنجيل فيه هدى ونور وموعظة ، ودخرناه في سمائنا لتأييد شريعة الخاتم الفاتح .
ولما اشتد تشوف السامع إلى الموحى الموصى به ، أبرزه في أسلوب الأمر فقال مبدلاً من معمول " شرع " أو مستأنفاً : { أن أقيموا } أي أيها المشروع لهم من هذه الأمة الخاتمة ومن الأمم الماضية { الدين } أي الذي اتفق عليه الخلائق بالرجوع إلى ما فطروا عليه وقت الاضطرار وهو التوحيد والوصف بجميع صفات الكمال على الإطلاق وغير ذلك من كل ما أرسل به رسله هذا على تقدير أن تكون { أن } مصدرية ، ويجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول .
ولما عظمه بالأمر بالاجتماع ، أتبعه التعظيم بالنهي عن الافتراق فقال : { ولا تتفرقوا } أي تفرقاً عظيماً بما أشار إليه إثبات التاء ، وكأن ذلك إشارة إلى التحذير من التفرق في الأصل وإذن في الاجتهاد على قدر القوة في الفرع { فيه } أي الدين في أوقات الرخاء عند التقلب في لذيذ ما أنعم به الشارع له الآمر به المرغب في اتباعه المرهب من اجتنابه ، واجتمعوا على ما أرسله الذي أثبتم له جميع صفات الكمال عند الشدائد من غير خلاف أصلاً في شيء من الأشياء ، فإن التفرق سبب الهلاك ، والاجتماع سبب النجاة ، فكونوا يداً واحدة يا أهل الكتاب قال تعالى { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } .
ولما نهى عن التفرق ، حث على لزوم الاجتماع اللازم به بتعليل النهي بقوله : { كبُر على المشركين } أي جل وعظم وشق حتى ضاقت به صدورهم ، وهو { ما تدعوهم إليه } أيها النبي الفاتح الخاتم من الاجتماع أبداً على ما اجتمعوا عليه وقت الاضطرار من وحدانية الواحد القهار ، فلأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم عنه فإن تفرقتم عنه كنتم قد تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود . ولما كان الإخبار بكرّه عليهم ربنا أوهم اتباع أتباعهم له ، أزال ذلك الوهم بقوله جواباً لمن كأنه قال : كيف السبيل مع ذلك إلى دخول أحد في هذا الدين ، عادلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه تعظيماً للقدرة على جميع القلوب : { الله } أي الذي له مجامع العظمة ونفوذ الأمر { يجتبي } أي يختار بغاية العناية ويصرف { إليه } أي إلى هذا الدين الذي تدعوهم إليه { من يشاء } اجتباءه .
ولما ذكر سبحانه بهذا المراد بغير تكسب منه ، أتبعه المزيد المعتى بالسلوك فقال : { ويهدي إليه } بالتوفيق للطاعة { من ينيب * } أي فيه أهلية لأن يجدد الرجوع إلى مراتب طاعاته كل حين بباطنه بعد الرجوع بظاهره إلى ما كتبه له من الدرجات كأنه كان الوصول إليها قد نزل عنها وهو بترقيه في المنازلات بأحوال الطاعات يرجع إليها .