وقوله : { ألا تعلوا لي }[ 31 ] ، أي لا تتكبروا علي ، ولا تتجبروا{[52211]} علي ، وأتوني مذعنين مستسلمين . وقال{[52212]} : إنما وصفته بالكريم على معنى كتاب من رجل كريم ، رفيع القدر يطيعه الجن ، والإنس ، والطير . لأنها كانت قد سمعت{[52213]} بخبر سليمان ، فلما رأت اسمه في الكتاب عرفته ، وعرفت قدر ملكه ، وأخبرتهم أنه من سليمان وأن فيه بسم الله الرحمن الرحيم .
وهذه{[52214]} جملة من علل بسم الله الرحمن الرحيم : فمن ذلك ما روي عن{[52215]} عيسى{[52216]} صلى الله عليه وسلم{[52217]} : أنه{[52218]} قعد بين يدي مؤدب ، فقال له المؤدب قل : بسم الله الرحمن الرحيم : فقال عيسى وما بسم الله . فقال المؤدب : لا أدري ؟ فقال عيسى : الباء : بهاء الله/ والسين سناء الله ، والميم ملكه{[52219]} . وكذلك{[52220]} قال الحسن إلا أنه قال : والميم مجده . والباء متعلقة بفعل مضمر ، والمعنى : ابدأ بسم الله{[52221]} ، فإذا اختلفت الأفعال التي تريد أن تسمي الله{[52222]} عليها ، أضمرت{[52223]} لكل{[52224]} معنى فعلا يشاكله ، فإذا أردت القيام فقلت بسم الله : أضمرت أقوم بسم الله ، وإذا أردت القعود قدرت أقعد بسم الله ، وكذلك الركوب وشبهه .
وقيل{[52225]} : إن الإضمار في جميع ذلك أبدا وهو أحسن عند الحذاق ، وإنما حذف الفعل ولم يذكر إيجازا{[52226]} واختصارا{[52227]} ، إذ{[52228]}ما بقي من الكلام يدل عليه ، وهذا الحذف كثير في الكلام ، وإنما اختيرت الباء لأنها{[52229]} للإلصاق ، وأنت تحتاج أن تلصق ابتداءك بالتسمية ، فجئت بالباء لأنه{[52230]} موضعها ، وإنما سميت الباء ، ومن وعن وشبهها بحروف الجر لأنها تجر الأفعال إلى الأسماء : تقول : مررت بزيد وانتهيت إلى عمرو . فلولا{[52231]} الحروف ما انجرت الأفعال إلى الأسماء . وإنما خفضت هذه الحروف الأسماء لأن معناها الإضافة ، تضيف فعلا إلى اسم ، أو معنى إلى اسم . كقولك : مررت بزيد ، وعمرو كزيد . وإنما كسرت الباء{[52232]} . لتكون حركتها مثل عملها{[52233]} ؛ هذا قول الجرمي{[52234]} . ولم تكسر الكاف لتفرق بين ما يكون حرفا واسما ، وبين ما لا يكون إلا حرفا ، وإنما عملت الخفض لأنها لا معنى لها في الأفعال فلزمت الأسماء ، فلما لزمت الأسماء{[52235]} عملت{[52236]} إعرابا لا يكون إلا في الأسماء ، وهو الخفض ، وقد فتحوا لام{[52237]} الجر مع المضمر{[52238]} .
ردت إلى أصلها لأنها إنما كسرت مع المضمر ليفرق بينها{[52239]} وبين لام التأكيد{[52240]} ، وتركت{[52241]} الباء على كسرها مع المضمر إذ ليس فيها علة توجب فتحها ، وكسرت{[52242]} لام كي لأنها هي{[52243]} لام الجر بعينها ، وكسرت لام الأمر للفرق بينها وبين لام{[52244]} التأكيد ، والفرق بين لام الجر ، ولام الأمر وكلاهما مكسور ، أن{[52245]} لام الجر لا تدخل{[52246]} على الأفعال{[52247]} ولام{[52248]} الأمر لا تدخل على الأسماء ، فعملت لام الجر إعرابا لا يكون إلا في الأسماء للزومها الأسماء وهو الجر ، وعملت لام الأمر إعرابا لا يكون إلا في الأفعال للزومها{[52249]} الأفعال وهو الجزم . وأصل هذه{[52250]} الحروف كلها الفتح ، كواو العطف ، وفائه ، وألف الاستفهام . وكانت في الأصل لا حركة لها ولم يمكن{[52251]} الابتداء بساكن فلم يكن بد من حركة فأعطيت أخف الحركات وهي الفتحة ، وإذا قلت{[52252]} : بسم الله فهو{[52253]} الله في المعنى كما قال لبيد{[52254]} :
إلى الحلول ثم اسم السلام عليكما{[52255]} *** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر{[52256]}
يريد ثم{[52257]} السلام عليكم فرفع{[52258]}اسما بالابتداء لما قدمه ولم يعمل فيه الإغراء{[52259]} لأنه متأخر لا يتقدم عليه معموله ، ومثله{[52260]} قول الشاعر{[52261]} :
يا أيها المائح دلوي دونكا *** إني رأيت الناس{[52262]} يحمدونكا
أي هذا دلوي ، ويجوز النصب بإضمار{[52263]} فعل تقديره : ثم الزم اسم السلام . وحذفت الألف من بسم{[52264]} لأن الباء كفت{[52265]} منها ، فوصلت اللسان إلى النطق بالسين .
وكان الخليل{[52266]} يسمي ألف الوصل سلم اللسان ، وحذفت من الخط لكثرة الاستعمال ، وهذا مذهب الجرمي ، والمبرد ، والكسائي والفراء . وقال الأخفش : حذفت من الخط لما وصلت إلى السين{[52267]} بالباء{[52268]} فألزمه الفراء أن تحذف الألف من الخط في قولهم : فاضرب واضرب ولا يحسن حذف هذا{[52269]} .
وقال{[52270]} الكسائي : في قوله : { بسم الله{[52271]} مجراها } إن{[52272]} شئت أثبت{[52273]} الألف في الخط وإن شئت حذفتها . وإنما دخلت ألف الوصل{[52274]} الأسماء ، وحقها أن تدخل على الأفعال على التشبيه بالأفعال ، كما أضافوا إلى الأفعال وليس بابها أن يضاف إليها على التشبيه أيضا بالأسماء .
وقيل : إنما دخلت هذه الأسماء الألف لأنهم{[52275]} لما حذفوا من{[52276]} أواخرها أرادوا العوض من المحذوف ، فلم يمكن{[52277]} أن يعوضوا منه آخرا ، فعوضوا منه أولا ، وسكنوا السين ليسوغ دخول الألف ، والعوض في كلام العرب كثير ألا ترى أنهم يقولون{[52278]} : زنادقة وزناديق{[52279]} . فيعوضون الياء من الهاء ، وإنما حذفوا من هذه الأسماء لأن آخرها / حرف علة ياء ، أو واو ، وقد كان يجب أن ينقلبا ألفا إذ هما ظرفان{[52280]} ، فكان الحذف أخف من الإعلال والإقلاب ، فلما حذف من آخرها حرف أشبهت الأفعال ، لأن الحذف أكثر ما يكون في الأفعال نحو : لم أبل ولا أدر فلما ضارع الاسم{[52281]} الفعل في باب الحذف آخرا{[52282]} ضارعه في باب{[52283]} الزيادة أولا فدخلته ألف الوصل ، ولم يمكن{[52284]} أن تدخل{[52285]} على متحرك فسكن أوله ، وهذا قول حكي عن الخليل .
والمحذوف من اسم عند البصريين{[52286]} واو وأصله سمو على مثال قنو ، دليله قولهم : أسماء كأقناء وكذلك{[52287]} أب وأخ . المحذوف منهما{[52288]} واو يدل على ذلك قولهم : الأبوة والأخوة . وقولهم : أبوان وأخوان . وقد كان يجب أن تدخل{[52289]} ألف الوصل على أب ، وأخ على ما قدمنا من العلة إلا أنه لما كان في{[52290]} أول أب وأخ همزة ثقل دخول همزة أخرى عليها ، والعرب تستثقل الجمع بين همزتين في كلمتين ولا تجيزه{[52291]} في كلمة{[52292]} إلا بالتخفيف ، فتركوا ما يستثقلون{[52293]} .
وقيل : من السمة{[52294]} .
وقيل : هو أمر{[52295]} من قولك اسم فلانا أي أعله{[52296]} وكذلك ابن{[52297]} أصله الأمر من قولك : ابن البناء يا رجل . وقول ما قال : هو من السمة{[52298]} . قول صحيح في المعنى لأن صاحبه يعرف به كالسمة{[52299]} في البعير يعرف بها ، لكنه غير جائز في الاشتقاق ، والأصول ، وذلك أنه ليس في كلام العرب مصدر فعل معتل{[52300]} فاؤه واو تدخله ألف الوصل ، فيكون هذا مثله ، ألا ترى أنك لا تجد مثل أعد وأزن{[52301]} في وعد ووزن{[52302]} وأيضا فإنه يجب أن يقال في تصغيره وسيم كما تقول{[52303]} في تصغير عدة وعيدة{[52304]} وذلك لا يقال .
وقولك : بسم في موضع نصب عند الكوفيين فبين{[52305]} لأن التقدير أُبدأ بسم{[52306]} .
وقال البصريون : موضعه رفع على إضمار{[52307]} مبتدأ ، والتقدير أول ابتداء{[52308]} بسم الله ، وقد أجاز النحويون : ابتدأت{[52309]} ببسم{[52310]} الله فأدخلوا الباء على الباء ، وليس هذا بجائز في غيره ، وإنما ذلك ، لأن هذه الباء لما لزمت الاسم ولم تفارقه ، وكثر الاستعمال بها صارت كأحد حروف الاسم ، فدخلت عليها الباء كما تدخل على سائر الأسماء ، وإنما خصت الألف بالزيادة والتعويض{[52311]} من المحذوف في اسم لأن أولى الحروف بالزيادة من حروف المعجم الياء والواو والألف ، وهنا{[52312]} حروف المد واللين ، ولا يكون الإعراب إلا بواحد منها ، أو بحركة هي منها .
قالوا : ولا تزاد أولا ، وكذلك الياء ، فزادوا ألفا ، والألف لا تكون{[52313]} إلا ساكنة وبعدها السين ساكنة فكسرت الألف لالتقاء الساكنين و{[52314]} إنما سميت الهمزة ألفا لأن صورتهما واحدة ، ولأن الألف{[52315]} تبدل من الهمزة في يأكل ويأتي ، والهمزة تبدل من الألف في رسائل وقلائد ، وإنما ردت{[52316]} ألف الوصل في قولك امرئ وهو غير محذوف الآخر لأن آخره وهو الهمزة لا تثبت على{[52317]} حال يكون في الرفع واوا ، وفي النصب ألفا ، وفي الخفض ياء ، فضعف فصار بمنزلة المحذوف فزيدت{[52318]} الألف في أوله لضعف الآخر .
وقال المبرد : لما كان امرؤ{[52319]} لا يقوم بنفسه{[52320]} حتى يضيفه{[52321]} إلى غيره . فتقول هذا امرؤ سوء{[52322]} ، وشبه الأفعال إذ كانت لا تقوم بنفسها و{[52323]} لابد لها من فاعل{[52324]} فدخلته ألف الوصل لذلك ، وإنما لقبت هذه الألف بألف وصل عند الكوفيين لأنها تذهب في الوصل فلقبت بضد حالها كما سمي اللديغ{[52325]} سليما ، والمخافة مفازة{[52326]} . وقيل : سميت ألف وصل لأنها{[52327]} تصل الكلام الذي قبلها بالذي بعدها ويستغنى عناه . وهذا القول هو القول الأولى في المعنى .
وقال البصريون : لقبت{[52328]} ألف وصل : لأنه يوصل بها إلى الساكن الذي بعدها . وحكي عن الخليل : أنه كان يسمي{[52329]} ألف الوصل : سلم اللسان .