الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

ثم قال تعالى : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا }[ 102 ] .

والمعنى : ومنهم آخرون ، أي : من أهل المدينة منافقون آخرون ، { اعترفوا بذنوبهم } ، أي : أقروا بها : { خلطوا عملا صالحا } ، وهو إقرارهم وتوبتهم ، { وآخر سيئا }[ 102 ] ، وهو تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك{[29840]} .

والواو [ في ]{[29841]} قوله : { وآخر }{[29842]} ، بمعنى : " مع " عند البصريين ، كما تقول :

" استوى الماء والخشبة " {[29843]} .

وأنكر الكوفيون أن يكون هذا بمنزلة " استوى الماء والخشبة " ؛ لأن هذا لا يجوز فيه تقديم الخشبة على الماء ، وإنما هو عندهم بمنزلة " خلطت الماء واللبن " ، أي : باللبن{[29844]} ، فكل واحد منهما يجوز أن يتقدم ، مثل الآية .

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عشرة أنفس تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في عزوة تبوك ، فلما رجع النبي عليه السلام ، أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، وكان ممر النبي عليه السلام إذا رجع في المسجد عليهم . فلما رآهم قال : من هؤلاء ؟

قالوا : أبو{[29845]} لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك ، يا رسول الله ، حتى تطلقهم وتعذرهم{[29846]} . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم ، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم ، رغبوا عني ، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين " . فلما بلغهم ذلك قالوا : /ونحن والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا . فأنزل الله عز وجل : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الآية .

فأطلقهم النبي عليه السلام ، و{ عسى }{[29847]} من الله واجبة{[29848]} .

وقيل : كانوا ستة ، والذين أوثقوا أنفسهم ثلاثة : أبو لبابة ورجلان معه{[29849]} .

وقال زيد بن أسلم : الذين ربطوا أنفسهم ثمانية{[29850]} .

وقال قتادة : كانوا سبعة ، وفيهم نزل : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها }{[29851]} .

وقال مجاهد : هو أبو لبابة وحده ، اعترف بذنبه الذي كان في بني قريظة ، إذ أشار لهم إلى حلقه ، يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذابحكم{[29852]} إن نزلتم على حكم الله سبحانه{[29853]} .

وقال الزهري : نزلت في أبي لبابة إذ{[29854]} تخلف عن غزوة تبوك ، يربط نفسه ، حتى أنزل الله عز وجل توبته ، ومكث سبعة أيام لا يذوق{[29855]} طعاما ولا شرابا حتى خرّ مغشيا عليه ، فقيل له : قد تيب عليك يا أبا لبابة ، فقال : والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الذي يحلني ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحله بيده ، ثم قال أبو لبابة : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخل من مالي كله صدقة إلى الله ورسوله ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يجزيك يا أبا لبابة الثلث{[29856]} " .

والعمل الصالح الذي عملوه ، قيل : هو توبتهم{[29857]} .

وقيل : حضورهم بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم{[29858]} .

{ منافقون } ، وقف{[29859]} ، إن جعلت { مردوا } ، نعتا لأهل المدينة{[29860]} ، فإن جعلته نعتا للمنافقين لم تقف دونه ؛ لأنه ينوي به التقديم{[29861]} .

وقيل : كانوا ثلاثة ، أبو لبابة ، ووداعة{[29862]} بن ثعلبة ، وأوس بن خدام{[29863]} من الأنصار . لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أوثقوا أنفسهم في سواري المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا ابتدأ سفرا أو رجع منه ابتدأ بالمسجد{[29864]} ، فصلى في ركعتين ، فدخل فرأى فيه قوما موثقين ، فسأل عنهم ، فأُخبر بخبرهم ، وأنهم أقسموا ألا{[29865]} يحلوا أنفسهم حتى يحلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[29866]} : " وأنا أقسم لا أطلق عنهم حتى أُومر ، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله ، فلما نزل فيهم القرآن حلهم النبي صلى الله عليه وسلم{[29867]} .


[29840]:انظر: جامع البيان 14/446.
[29841]:في المخطوطتين، وآخرون، وهو سهو ناسخ.
[29842]:في المخطوطتين، وآخرون، وهو سهو ناسخ.
[29843]:انظر: جامع البيان 14/446، والتبيان 2/658.
[29844]:تفسير القرطبي 8/155، وهو الصواب في جامع البيان 14/447.
[29845]:في الأصل: ابن، وهو تحريف.
[29846]:من باب ضرب. المصباح عذر.
[29847]:في الأصل وعيسى، وهو تحريف سييء.
[29848]:جامع البيان 14/447، 448، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1872، وأسباب النزول للواحدي 263، والدر المنثور 4/275، وينظر: تفسير الرازي 8/180.
[29849]:هو قول ابن عباس في جامع البيان 14/448، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1872، ولباب النقول 213.
[29850]:جامع البيان 14/449، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1872، والدر المنثور 4/277.
[29851]:جامع البيان 14/449، 450، والدر المنثور 4/277، بأطول من هذا، وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير 6/1873، من غير: "وفيهم نزل".
[29852]:في الأصل: ذابحهم، وهو تحريف ناسخ.
[29853]:التفسير 374، وجامع البيان 14/451، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1873، والدر المنثور 4/276.
[29854]:في "ر": إذا، وهو تحريف ناسخ.
[29855]:في الأصل: يذوقون، وهو سهو ناسخ.
[29856]:تفسير عبد الرزاق الصنعاني 2/286، وجامع البيان 14/452، وتفسير البغوي 4/91 وفي تفسير القرطبي 8/154: ورواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك.
[29857]:معاني القرآن للفراء، 1/450، وتمام نصه: "من تخلفهم عن غزوة تبوك".
[29858]:هو قول الفراء في معاني القرآن 1/450، انظر: تفسير الماوردي 2/397، 398.
[29859]:كاف في القطع والإئتناف 366، ومنار الهدى 169.
[29860]:قال في مشكل إعراب القرآن 1/355، {مردوا} نعت لمبتدأ محذوف، تقديره: ومن أهل المدينة قوم مردوا، والمجرور خبر الابتداء".
[29861]:في القطع والإئتناف 366: "وإن جعلت التقدير: وممن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق ويكون {مردوا} نعتا لـ"منافقين" لم يحسن الوقف {منافقون}. انظر: علل الوقوف للسجاوندي 2/558، ومنار الهدى 169.
[29862]:كذا في المخطوطتين، وفي الإصابة 1/299، "روى أبو الشيخ في تفسيره، من طريق الثوري، قال: كان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك ستة: أبو لبابة، وأوس بن خدام، وثعلبة بن وديعة، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية"، انظر: تفسير ابن كثير 2/385، و399.
[29863]:في "ر": خزام بالزاي المعجمة، وهو تحريف ناسخ.
[29864]:في الأصل: من المسجد.
[29865]:في "ر": لا.
[29866]:في "ر": ألا.
[29867]:البحر المحيط 5/98، 99 مع اختلاف في بعض ألفاظه.