الآية 102 وقوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } قيل : تتلو ما كتبت الشياطين من السحر ، وقيل : تتلو من التلاوة ، وقيل : ( ما تتلوا ) ما يروي الشياطين من السحر ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وهو يرجع إلى واحد .
والآية{[1177]} في موضع الاحتجاج على اليهود لأنهم ادعوا أن الذي هم عليه أخذ عن سليمان عليه السلام فإن كان كفرا{[1178]} فقد كفر سليمان . فأخبر الله عز وجل نبيه أن سليمان ما { كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } بما علموا الناس من السحر .
ويحتمل : أتباع الشياطين كفروا باعتقادهم السحر وعملهم به بتعليم الشياطين ، فنسب{[1179]} ذلك إلى الشياطين بما بهم كفروا كما نسبت عبادة الأصنام بما بهم عبدوا ، والله أعلم .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، فكان{[1180]} يكتب كل شيء بأمر سليمان ، ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وكذبا ، فقالوا : هذا الذي كان يعمل به سليمان ، فأكفره جهال الناس ، وسبوه ، ووقف علماؤهم ، فلم يزل جهالهم /15/ب/ يسبونه حتى أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } الآية .
وقال بعضهم : إن الشياطين ابتدعت كتابا من السحر والأمر العظيم ، ثم أفشته في الناس ، وعلمته إياهم ، فلما سمع بذلك سليمان تتبع تلك الكتب ، فدفنها تحت كرسيه كراهية أن يتعلمها الناس ، فلما قبض سليمان عليه السلام عمدت{[1181]} الشياطين إلى تلك الكتب ، فاستخرجتها [ من مكانها ، وعلموها الناس ، وأخبروهم أنه علم كان سليمان يكتمه ، ويستأثره ، فعذر الله نبيه سليمان ]{[1182]} ، وبرأه من ذلك على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } الآية .
وقيل : أيضا لما مات سليمان عليه السلام وقع في الناس أوصاب وأوجاع ، فقال الناس : لو كان سليمان عليه السلام حيا لكان [ عنده من هذه فرج ، فظهرت الشياطين ]{[1183]} لهم ، فقالوا : نحن ندلكم على ما كان يعمل به سليمان عليه السلام فكتبوا كتبا فجعلوها في البيوت ، فاستخرجوا الكتب التي كتبت{[1184]} لهم الشياطين من السحر والسجع{[1185]} ، فقالوا : هذا ما كان يعمل به سليمان ، فأنزل الله عز وجل : { وما كفر سليمان } الآية .
فلا ندري كيف كانت القصة . غير أن اليهود تركت كتب الأنبياء والرسل ، واتبعوا كتب الشياطين وما دعوهم إليه من السحر والكفر ، وبالله التوفيق .
وفيه دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبرهم عن قصتهم على ما كان ، فدل أنه كان عرف ذلك بالله عز وحل وفي ذلك أن [ قد ]{[1186]} نسب إلى سليمان عليه السلام ما برأه الله من غير أن يبين ماهيته ؛ ذكره الله عز وجل لوجهين : دلالة لرسوله وتكذيبا للذين نحلوه بما هو كفر .
وقوله : { على ملك سليمان } أي في ملكه ، إذ{[1187]}كان ذلك الوقت هو وقت ظهورهم ، ثم سخرهم عز وجل لسليمان ، فأمكن ذلك منهم ؛ ألقاه على ألسن المعاندين لسليمان في السر ، فرووه عنه بعد الوفاة ، فكذبهم الله عز وجل وبرأ نبيه عليه السلام من ذلك ، وبين كيف كان بدؤه . فإنما بينها للخلق لئلا يتبعوا في الرواية كل من [ لقي النبي ]{[1188]} ؛ إذ قد يكون من أمثالهم اختراع الرواية وإلزام السامعين الأمور غير المعتادة من الرسل ورد ما لا يوافق ذلك من الرواية . ولذلك أبطل أصحابنا خبر الخاص في ما يبلى به العام .
وقوله : { وما أنزل على الملكين } قيل ( وما أنزل ) على النفي والجحد معطوفا على قوله : { وما كفر سليمان } ، وقيل : { وما أنزل على الملكين ببابل } [ والذي أنزل على الملكين ببابل ]{[1189]} ، وقيل سمى{[1190]} بابل لما تبلبلت به الألسن ، يعني : اختلفت ، فلا يعلم ذلك إلا بالسمع .
ثم{[1191]} اختلف في هاروت وماروت ؛ فقال الحسن : لم يكونا ملكين ، ولكنهما كانا رجلين فاسقين متمردين ، وذلك أن الله عز وجل وصف ملائكته بالطاعة له والائتمار بأمره بقوله : { لا يعصون الله ما أمرهم } الآية{[1192]} [ التحريم : 6 ] وقوله : { لا يسبقونه بالقول } الآية{[1193]} [ الأنبياء : 27 ] . وكذلك يقول الحسن [ في إبليس ]{[1194]} : ( إنه لم يكن من الملائكة ) وقد ذكرنا هذه المسألة في ما تقدم{[1195]} ، ثم عارض نفسه بقولهما : ( فلا تكفر ) ، ( فقال : إن{[1196]} المخبر بمثله إذا عرف ولوع السامع [ به ربما ]{[1197]} يعرض مثله على العلم منه أنه يفعل ، ولا يرتدع{[1198]} عن ذلك يقال : ذلك ترغيبا منه ، والله أعلم ) .
ومنهم من يقول : كانا ملكين ، لكنهما علما الاسم الأعظم ، فيقضيان به الحوائج إلى أن حل بهما ما حل . وبهذا يحتج في بلعام بقوله : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه فانسلخ منها فأتبعه الشيطان } الآية{[1199]} [ الأعراف : 175 ] [ ثم ]{[1200]} اختلف بعد هذا على أوجه : قال بعضهم : لم يكن ذلك منهما سحر ، بل هو تعويذ الفرية{[1201]} يقدر [ عليه ]{[1202]} ، وقال قائلون : [ إن ]{[1203]} ما أنزل على الملكين أنزل كلاما حسنا صوابا ، لكنه خلط بالذي لقنهم الشيطان ، فصار سحرا ، وقال آخرون : بلى كان هو في نفسه سحرا ، يعلمان الناس ذلك ، لكنه لا ينهى عن تعليمه ، ولا يكفر الذي{[1204]} تعلم ، إنما ينهى عن الاعتقاد له ، فكان كالكفر الذي يعلم ، لا ينهى عن ذلك ، لأنه ما لم يُعلم{[1205]} لم يُعلم قبحه وفساده ، ولكن إنما ينهى عن الاعتقاد في تعلمه ، والله أعلم .
ثم نقول : إن قولهما : { فلا تكفر } على الاختيار [ منهما ]{[1206]} ، وكلمة السحر جار [ عليهما ]{[1207]} في اللسان من غير صنع لهما فيه . والله أعلم .
وقوه : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } قيل : إلا بعلم الله وقضائه{[1208]} ، وقيل : بخذلانه وتخليه{[1209]} ، وقيل : بمشيئة الله وإرادته . وأما ظاهر الإذن فهو يخرج على الإباحة ، فالعقل يدفعه . وقيل : إنه لا يصل إلى هاروت وماروت أحد من بني آدم ، وإنما يختلف بينهم شيطان في كل مسألة ، والله أعلم .
ثم{[1210]} السحر يكون على وجهين . سحر يكفر به صاحبه ؛ فإن كان ذلك منه بعد الإسلام يقتل{[1211]} به صاحبه لأنه ارتداد منه ، وسحر لا يكفر به صاحبه فلا يقتل به إلا أن يسعى في الأرض بالفساد من قتل الناس وأخذ الأموال ، فهو كقاطع الطريق يحكم بحكمهم من القتل وسائر العقوبات ، وإذا تاب قبلت توبته . ألا ترى أن سحرة فرعون لما رأوا الآيات آمنوا بالله تعالى ، وتابوا توبة لا يطمع [ في ]{[1212]} مثل تلك التوبة من المسلم الذي نشأ على الإسلام ؛ حين أوعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب وأنواع العذاب ، فقالوا : { لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون } ؟ [ الشعراء : 50 ] .
وذكر عن أبي حنيفة رضي الله عنه في الساحرة أنها لا تقتل مرة . وذكر عنه مرة أنها تقتل . وقال في الساحر بالقولين . وأما [ ما ]{[1213]} روي عنه فيه بالقتل بعمل السحر فهو على ما ذكرنا من قتله الناس بالسحر ؛ فهو كالساعي في الأرض بالفساد لا بعين{[1214]} السحر ، أو[ كمن ]{[1215]} كفر بسحره بعد الإسلام ، فيقتل كالمرتد عن الإسلام . وما ذكر عنه أنه لا يقتل فهو إذا لم يكن سحره سكر كفر ، ولا يسعى بالقتل في الأرض ، لم يقتل به .
ثم قوله في الساعي في الأرض بالفساد : إنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه سقط عنه القتل ، فكذا الساحر . وأما الذي هو لأجل الكفر يلزم القتل قبل التوبة بعد القدرة عليه . وعلى هذا يخرج قوله في الساحرة أيضا ؛ ففي ما قال : إنها لا تقتل لما كان سحرها سحر كفر ، والنساء لا يقتلن للكفر ، وفي ما قال : يقتلن فلأنهن يقتلن للسعي في الأرض بالفساد كالرجل . والله أعلم .
وقال بعض [ الناس ]{[1216]} : لا تقبل توبة الساحر{[1217]} ، وهو غلط ، وأحق من تقبل توبته الساحر ؛ إذ هو أبلغ في تمييز{[1218]} ما هو حجة مما لا حجة . وهذا هو الأصل : إن المدعي لشيء على عهد الأنبياء ، إذا استقبلهم بمثلة الأنبياء عليهم السلام فهو أحق من يلزمهم الإيمان به لعلمهم بالحق منه ، والعوام{[1219]} لا يعرفون إلا ظاهر ما يلزمهم من تصديق الحجج ، والله أعلم .
وقوله : { ويتعلمون ما يضرهم } في الدنيا { ولا ينفعهم } في آخرتهم . وقيل : { ويتعلمون ما يضرهم } في آخرتهم { ولا ينفعهم } إن علموه . وقوله{[1220]} : { ولقد علموا } يعني اليهود في التوراة { لمن اشتراه } يعني اختاره للسحر{[1221]} ، يقول{[1222]} : لقد علمت اليهود أن في التوراة آية لمن اختار السحر . وقوله : { ما له في الآخرة من خلاق } يقول : نصيب في الثواب ، وقيل : { ما له في الآخرة من خلاق } أي ما له عند الله وجه{[1223]} .
وقوله : { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } أي بئس ما باعوا به [ أنفسهم ؛ يعني اليهود الذين يعلمون الفرية{[1224]} والسحر . وقيل : { ما شروا به أنفسهم } يقول{[1225]} ما باعوا به أنفسهم [ من السحر والكفر ؛ يعني من لا يقرأ التوراة ، أو يعني : ان لو كانوا يعلمون ما باعوا به أنفسهم ]{[1226]} ، ولكنهم لا يعلمون ؛ أي لو علموا أنهما بما باعوا أنفسهم من العذاب الدائم لعلموا أنهم بئس ما باعوا به .