الآية : وقوله تعالى : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } له تأويلان :
أحدهما : { ذلك بأنهم آمنوا } بلسانهم { ثم كفروا } بقلوبهم .
والثاني : على حقيقة الإيمان والكفر ؛ وذلك أنهم لما رأوا قلة المسلمين وضعفهم في أنفسهم يوم بدر ، ثم رأوهم مع هذه القلة والضعف غلبوا على الكفار مع كثرتهم آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أنهم لا يغلبون أبدا .
ثم إن المسلمين لما غلبوا يوم أحد ، وأصابهم [ ما أصابهم ]{[21261]} اضطربوا في إيمانهم ، وشكّوا ، وكفروا ؛ وذلك معنى قوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } [ الحج : 11 ] فكذلك تأويل قوله تعالى : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } .
وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى أن السبب الذي تولد منه نفاقهم وحلفهم وقولهم : { نشهد إنك لرسول الله } [ وقوله ]{[21262]} { بأنهم آمنوا ثم كفروا } .
وجائز أنه لم يكن منهم حقيقة إيمان ولا كفر ، ولكنهم كانوا أقواما همتهم الدنيا وسعتها ، وكانوا يكونون مع من تكون معه الدنيا : إن رأوها{[21263]} مع المؤمنين أظهروا من أنفسهم أنهم مؤمنون ، وإن رأوها{[21264]} مع الكفار أظهروا أنهم كفار ، لا أن يكون منهم حقيقة إيمان أو كفر ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فطبع على قلوبهم } الطبع يجوز أن يكون كناية عن ستر وظلمة على قلوبهم ، فلا يرون به الحق وحججه .
قال : ويجوز أن يجعل الله الكفر ظلمة في القلب لا يبصرون به الحجج والآيات ، أو يجعل الكفر كنّا على [ قلب الفرد ]{[21265]} ليضيق ، فلا يرى من بعد ذلك منافعه ومضاره إلا من ذلك الوجه ، فيكفر وبما كان . فذلك معنى الطبع ؛ يعني أن اشتغالهم بالكفر وكسبهم إياه غطّى قلوبهم ، وسترها عن أن يبصروا الحق وحججه ، والله أعلم .
قال الفقيه رضي الله عنه في قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } إن المنافقين لم يجيبوا بأجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما جاء بعضهم / 570 – ب/ وكذلك في قوله تعالى : { نشهد } في بعض التأويلات : نقسم ، والقسم ليس من فعل الأتباع والسفلة ، وإنما ذلك من فعل الأجلة والرؤساء . فدل أنه إنما تعاطى هذا الفعل بعض المنافقين .
ثم ذكر الله تعالى ذلك البعض بلفظ الكل ، فعلم أنه ليس كل ما خرج في الظاهر مخرج العموم يتناول كل من دخل تحت ذلك الاسم ، ولكنه ينظر في معنى اللفظ وحقيقته .
فإن كان الدليل يوجب تعميمه أجري على عمومه ، وإن كان يوجب تخصيصه أجري على خصوصه ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فهم لا يفقهون } يحتمل أن يكون معناه : أي لا يفقهون ، لأنهم{[21266]} طبع على قلوبهم ، وإلا لم يعرضوا عن الحق والآيات ؛ وذلك أنهم يظنون أنهم على الحق ، وجعلوا جميع همتهم في المنافع والمضار الدنيوية ، وإلا لو فقهوا أن لله تعالى دارا أخرى يجازون فيها بأعمالهم لعلموا أنه لا بد من دين يدينون به ، ولم ينظروا إلى منافعهم ومضارّهم ، والله المستعان .
ويحتمل أي لا يفقهون عن الله تعالى أنه تعبّدهم ، وأمرهم بطاعة رسول الله واتباعه .
ويحتمل أي لا يفقهون أنهم يتعبدون ، وأن لله دارا أخرى ، يسألهم عما فعلوا ، ويجازيهم على جميع ذلك .
ثم قال ههنا : { لا يفقهون } ولم يقل : لا يعلمون ، لأن الفقه إنما هو الذي يعرف به الشيء بالشيء فأخبر أنهم لا يعرفون الآخرة بالدنيا .
وقال ابن سريج : الفقه ، هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره .
وعندنا : أن الفقه ، هو معرفة الشيء بمعناه الدال على غيره ؛ كان ذلك نظيرا له أو لم يكن ، لأن من عرف الخلق بمعناهم دله ذلك على معرفة الصانع . ومن عرف الدنيا دله ذلك على معرفة الآخرة ، وليسا بنظيرين .
ثم بين الفقه والعلم فصل من وجه ، وإن كانا{[21267]} جميعا في الحقيقة ، يرجعان إلى معنى واحد ؛ لأن العلم إنما يجلي الشيء له ، وظهوره بنفسه ، والفقه يعرف بغيره استدلالا . ولذلك جاز أن يقال : إن الله تعالى عالم بتجلي الأشياء له ، ولم يجز أن يقال : إن الله فقيه ، لأنه لا يعرف الأشياء بالاستدلال ، والله الموفق .
والحكمة وضع الأشياء مواضعها ، والإيقان إنما هو يتولد عن ظهور الأسباب ، ولذلك جاز أن يقال : إن الله تعالى حكيم ، ولم يجز أن يقال : إنه موقن ، والله المستعان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.