تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَفۡقَهُونَ} (3)

الآية : وقوله تعالى : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } له تأويلان :

أحدهما : { ذلك بأنهم آمنوا } بلسانهم { ثم كفروا } بقلوبهم .

والثاني : على حقيقة الإيمان والكفر ؛ وذلك أنهم لما رأوا قلة المسلمين وضعفهم في أنفسهم يوم بدر ، ثم رأوهم مع هذه القلة والضعف غلبوا على الكفار مع كثرتهم آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أنهم لا يغلبون أبدا .

ثم إن المسلمين لما غلبوا يوم أحد ، وأصابهم [ ما أصابهم ]{[21261]} اضطربوا في إيمانهم ، وشكّوا ، وكفروا ؛ وذلك معنى قوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } [ الحج : 11 ] فكذلك تأويل قوله تعالى : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } .

وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى أن السبب الذي تولد منه نفاقهم وحلفهم وقولهم : { نشهد إنك لرسول الله } [ وقوله ]{[21262]} { بأنهم آمنوا ثم كفروا } .

وجائز أنه لم يكن منهم حقيقة إيمان ولا كفر ، ولكنهم كانوا أقواما همتهم الدنيا وسعتها ، وكانوا يكونون مع من تكون معه الدنيا : إن رأوها{[21263]} مع المؤمنين أظهروا من أنفسهم أنهم مؤمنون ، وإن رأوها{[21264]} مع الكفار أظهروا أنهم كفار ، لا أن يكون منهم حقيقة إيمان أو كفر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فطبع على قلوبهم } الطبع يجوز أن يكون كناية عن ستر وظلمة على قلوبهم ، فلا يرون به الحق وحججه .

قال : ويجوز أن يجعل الله الكفر ظلمة في القلب لا يبصرون به الحجج والآيات ، أو يجعل الكفر كنّا على [ قلب الفرد ]{[21265]} ليضيق ، فلا يرى من بعد ذلك منافعه ومضاره إلا من ذلك الوجه ، فيكفر وبما كان . فذلك معنى الطبع ؛ يعني أن اشتغالهم بالكفر وكسبهم إياه غطّى قلوبهم ، وسترها عن أن يبصروا الحق وحججه ، والله أعلم .

قال الفقيه رضي الله عنه في قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } إن المنافقين لم يجيبوا بأجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما جاء بعضهم / 570 – ب/ وكذلك في قوله تعالى : { نشهد } في بعض التأويلات : نقسم ، والقسم ليس من فعل الأتباع والسفلة ، وإنما ذلك من فعل الأجلة والرؤساء . فدل أنه إنما تعاطى هذا الفعل بعض المنافقين .

ثم ذكر الله تعالى ذلك البعض بلفظ الكل ، فعلم أنه ليس كل ما خرج في الظاهر مخرج العموم يتناول كل من دخل تحت ذلك الاسم ، ولكنه ينظر في معنى اللفظ وحقيقته .

فإن كان الدليل يوجب تعميمه أجري على عمومه ، وإن كان يوجب تخصيصه أجري على خصوصه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فهم لا يفقهون } يحتمل أن يكون معناه : أي لا يفقهون ، لأنهم{[21266]} طبع على قلوبهم ، وإلا لم يعرضوا عن الحق والآيات ؛ وذلك أنهم يظنون أنهم على الحق ، وجعلوا جميع همتهم في المنافع والمضار الدنيوية ، وإلا لو فقهوا أن لله تعالى دارا أخرى يجازون فيها بأعمالهم لعلموا أنه لا بد من دين يدينون به ، ولم ينظروا إلى منافعهم ومضارّهم ، والله المستعان .

ويحتمل أي لا يفقهون عن الله تعالى أنه تعبّدهم ، وأمرهم بطاعة رسول الله واتباعه .

ويحتمل أي لا يفقهون أنهم يتعبدون ، وأن لله دارا أخرى ، يسألهم عما فعلوا ، ويجازيهم على جميع ذلك .

ثم قال ههنا : { لا يفقهون } ولم يقل : لا يعلمون ، لأن الفقه إنما هو الذي يعرف به الشيء بالشيء فأخبر أنهم لا يعرفون الآخرة بالدنيا .

وقال ابن سريج : الفقه ، هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره .

وعندنا : أن الفقه ، هو معرفة الشيء بمعناه الدال على غيره ؛ كان ذلك نظيرا له أو لم يكن ، لأن من عرف الخلق بمعناهم دله ذلك على معرفة الصانع . ومن عرف الدنيا دله ذلك على معرفة الآخرة ، وليسا بنظيرين .

ثم بين الفقه والعلم فصل من وجه ، وإن كانا{[21267]} جميعا في الحقيقة ، يرجعان إلى معنى واحد ؛ لأن العلم إنما يجلي الشيء له ، وظهوره بنفسه ، والفقه يعرف بغيره استدلالا . ولذلك جاز أن يقال : إن الله تعالى عالم بتجلي الأشياء له ، ولم يجز أن يقال : إن الله فقيه ، لأنه لا يعرف الأشياء بالاستدلال ، والله الموفق .

والحكمة وضع الأشياء مواضعها ، والإيقان إنما هو يتولد عن ظهور الأسباب ، ولذلك جاز أن يقال : إن الله تعالى حكيم ، ولم يجز أن يقال : إنه موقن ، والله المستعان .


[21261]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[21262]:ساقطة من الأصل وم.
[21263]:ساقطة من الأصل وم:رأوا.
[21264]:في الأصل وم: رأوا.
[21265]:في الأصل وم: قلبه.
[21266]:في الأصل وم: لأنه.
[21267]:في الأصل وم: كان