الآية 11 وقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما } التجارة واللهو لا يريان في الحقيقة ، وإنما يرى اللاّهي والتاجر ، ولكنه ذكر فيه الرؤية لقرب اللهو من اللاّهي والتجارة من التاجر كما قال تعالى : { حتى يسمع كلام الله } [ التوبة : 6 ] وكما يقال : سمعت كلام فلان ، والكلام ، ليس بمسموع في الحقيقة ، وإنما المسموع في ذلك الصوت الذي يفهم به كلامه ، ولكن أطلق لفظ السماع في ذلك لتقاربهما ، والله أعلم .
وبعد فإن المعنى من هذا ، والله أعلم ، ليس الرؤية ، وإنما المعنى منه عندنا كأنه قال : وإذا علموا ، وذلك أنهم كانوا لا يرون التجارة ، ولكن ينهى إليهم خبرها ، فيعلمون بها ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { انفضوا إليها } ولم يقل إليهما ، وقد ذكر شيئين ، ولم يلحق ما بعدهما من الكناية بهما ، بل بأحدهما ، ويجوز مثل ذلك كقوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها } [ التوبة : 34 ] ولم يقل : ولا ينفقونهما لرجع الكناية إلى جميع ما سبق ذكره ، وكما قال : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [ البقرة : 35 ] وقد رجعت الكناية إلى أحد المذكورين لا إليهما ، وكذلك هذا .
وهذا لأن المقصود من خروجهم إنما كان ، هو التجارة دون اللهو ، ولكنهم إنما يعلمون ما يجلب إليهم بذلك اللهو ؛ فجاز أن يكون ذكر اللهو لهذا المعنى ، وإنما المقصود من ذلك التجارة ، وكذلك قوله : { ولا ينفقونها } فذكر حق الإنفاق في ما كان الإنفاق منه أيسر وأسهل في المتعارف ، وكذلك الفضة ، وإن كان الحق واجبا فيها جميعا لمآل{[21236]} المقصود ، وهو الصرف إلى الفقراء فعلى ذلك ههنا .
وأما المعنى منه عندنا إنما خص الصلاة برجوع الكناية إليها لأنها ثقلت على اليهود ، لأن القبلة كانت أولا إلى بيت المقدس ، فلما حولت إلى الكعبة ثقلت الصلاة إلى الكعبة على الكفار ، فقال : { وإنها لكبيرة } يعني الصلاة إلى الكعبة ، والله أعلم .
فإن قيل : كيف جاز أن ينفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الخطبة إلى اللهو والتجارة مع جلال قدرهم وتعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ وكذلك السؤال عن ضحكهم حين دخل الأعمى المسجد ، فوقع في بئر ؟
والجواب عن هذا أن القوم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، وكانوا من سوقة القوم ومن سفلتها ، ولم يكونوا عرفوا حق الخطاب وحق الخطبة عليهم ، فكانت تلك تجارة يأملون منها منافع ، لو لم يبادروا إليها ذهبت منهم . فإنما{[21237]} نفروا من المسجد جهلا منهم بحق الخطبة والخطاب .
وبعد فإنهم لم يكونوا من أجلّة القوم ، ولا صحبوا أجلّتهم ، ليعرفوا حق الخطبة والمخاطب ، فانفلتت منهم الزلة ومن مثلهم{[21238]}
فأما الذين كانوا من أجلة الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ومن علمائهم ، فلم ينفر أحد منهم ، وكذلك أمر الضحك أيضا يجوز أن يكون من ضحك من أتباع القوم ومن سفلتهم ، ولم يكونوا من الأجلة والنجباء ، ولا يستنكر من مثل أولئك هذا الصنيع ، والله أعلم .
قال : والمعنى من ترك النبي صلى الله عليه وسلم نهيهم عن الخروج وجهان :
أحدهما : أن الكلام كان محرما وقت الخطبة ، فلم ينههم للنهي عن الكلام في ذلك الوقت .
والثاني : يجوز أن يكونوا أسرعوا الخروج ، فلم يبلغهم نهيه ، أو لم ينههم لما علم أنهم لم يسمعوا ، والله أعلم .
وفي الخبر أنه ( عدّ الذين ثبتوا معه بعد ما فرغ من الصلاة ، فوجدهم اثني عشر رجلا ، فقال : لو لحق أخركم بأولكم لاضطرم الوادي نارا ) أي المدينة [ السيوطي في الدر المنثور 8/165 ] .
ففي هذا دلالة على أن الجمعة ، تقام بدون الأربعين ، لأنه عليه السلام جمّع باثني عشر رجلا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وتركوك قائما } هذا يدل على أن الخطيب{[21239]} ، إنما يكون قائما .
وقوله تعالى : { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } قال إمام الهدى : ولولا هذا لكان{[21240]} يعلم أن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . ولكن المعنى من ذلك ، والله أعلم ، أن الدنيا كلها متجر ، وأن أهلها فيها تجار : إما تجارة الدنيا [ وإما ]{[21241]} تجارة الآخرة ؛ لأن الطاعة والعبادة في الاعتبار كأنها تجارة ، لأنها{[21242]} تكتسب بها منافع الآخرة ، وتجارة الدنيا [ تكتسب بها ]{[21243]} منافع الدنيا .
فقال : التجارة التي عند الله في طاعته واكتساب منافع الآخرة خير من اللهو ومن التجارة التي تكتسب بها منافع الدنيا ، والله أعلم .
وجائز أن يكون معناه : كأنه قال : اتقوا الله فإنكم إذا اتّقيتموه اكتسبتم به المنافع في الرزق وغيره ؛ والتجارة الدنيوية لا يكتسب بها إلا منافع [ الدنيا ]{[21244]} .
ألا ترى إلى [ قوله تعالى ]{[21245]} : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب } ؟ [ الطلاق : 2 و3 ] وقوله{[21246]} تعالى في موضع آخر : { ومن يتق الله يكفر عنه سيآته ويعظم له أجرا } ؟ [ الطلاق : 5 ] .
فإذا كان التقوى يستفاد به الرزق والبر في الأمور وكفارة الذنوب ، والتجارة لا يكتسب بها إلا متاع الدنيا ، فرغبهم في ما فيه جملة المنافع ، وهو التقوى ليمكثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : رغبتكم في ما يكسبكم جملة المنافع ، إن اتقيتم ، ومكثتم عند النبي صلى الله عليه وسلم [ فهو ]{[21247]} خير من اللهو ومن التجارة التي تكسبكم منفعة واحدة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { والله خير الرازقين } ليس يقتضي ذكر هذا أن هناك رازقا آخر ليكون هو/ 570- أ/ خيرهم . ولكن المعنى من هذا في قوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وقوله{[21248]} : { وأنت أحكم الحاكمين } [ هود : 45 ] . لأنه كان هو خير الرازقين ، وأحسن الخالقين ، وأحكم الحاكمين ، لأنه لا يحكم إلا عدلا ، ولا يخلق إلا ما فيه حكمة . فكذلك قوله : { والله خير الرازقين } .
وجائز أن يضاف الرزق والخلق والحكم إلى العبيد مجازا ، فقال : { والله خير الرازقين } ممن يرزقكم ، لأن غيره من الخلق إنما يرزق غيره من رزقه ، ويعدل بحكمه ، ويفعل بتوفيقه وتسديده ، فقال : { والله خير الرازقين } الذين يرزقون من رزقه ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.