تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة{[1]} المنافقون مدنية

الآية 1 قوله تعالى { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله } اختلفوا في تأويل قوله تعالى : { نشهد } :

قال بعضهم : { نشهد } يعني نقسم ، ونحلف ، وقال بعضهم : { نشهد } على ابتداء الشهادة .

فمن حمله على القسم قرأ { اتخذوا أيمانهم جنة }[ الآية : 2 ] يعني حلفهم ، ومن حمله على الشهادة ابتداء قرأ اتخذوا إيمانهم{[21250]} جنة ، يعني تصديقهم ، ليس أنها قراءة واحدة ، فقرئت بلفظين ، ولكنهما كانا جميعا ، فقرئت بالمعنيين جميعا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } والإشكال أن كيف قال الله تعالى : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } وهم إنما { قالوا نشهد إنك لرسول الله } ؟ ومعلوم أن هذا القول منهم صدق ، ولكن المعنى من هذا ، والله أعلم .

أنم طعنوا في ما أظهروا من الخلاف والتكذيب عند غير رسول الله ، فحسبوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على صنيعهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، ويقولون : { نشهد إنك لرسول الله } وإن ما بلغك منا من القول كذب ، وما قلناه . فأخبر الله تعالى أنهم كاذبون في ما أخبروا أنهم ما قالوه .

ألا ترى إلى قوله : { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر } ؟ [ التوبة : 74 ] .

ويحتمل أن يكون معناه : إنا نشهد في قلوبنا إنك لرسول الله كما نظهره بألسنتنا ، فأخبر الله تعالى : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } في ما يشهدون بالإيمان في قلوبهم .

ويحتمل{[21251]} أن يكون المعنى من قوله : { نشهد } أي نعلم برسالتك في قلوبنا { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } في ما أخبروا أنهم يعلمون رسالته في قلوبهم ، وقد كان لزمهم العلم برسالته من جهة الآيات والحجج ، ولكن تعاموا عن ذلك العلم استخفافا منهم وتعنتا ، فصار ذلك العلم كالجهل الحقيقي .

ثم أخبرهم الله عن أنفسهم وضمائرهم أنهم يعلمون ، وأخبر رسوله{[21252]} أنهم كاذبون : أنهم يعلمون برسالته ، والله أعلم .

ثم الواجب أن يعلم ما الذي أحوجهم إلى أن { قالوا نشهد إنك لرسول الله } وقد كان كثير من المؤمنين يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقولون{[21253]} ذلك ، فكيف قال المنافقون ذلك ؟

فمعناه عندنا ، والله أعلم ، أنهم حين{[21254]} اعتادوا مخادعة الله ورسوله امتحنهم الله تعالى بهذه المقالة .

ويحتمل أن يكونوا جروا على عادتهم أنهم إذا لقوا المسلمين { قالوا آمنا } بمثل ما آمنتم { وإذا [ خلوا إلى شياطينهم ]{[21255]} قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون } [ البقرة : 14 ] . وإذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم { قالوا نشهد إنك لرسول الله } على عادتهم في كل مجلس{[21256]} بما يليق به وبمذهبه ، والله أعلم .

ويجوز أن يكونوا يخافون أن قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافهم ، وتكذيبهم ، فكانوا إذا لقوه { قالوا نشهد إنك لرسول الله } اعتذارا من ذلك الخلاف لو بلغه .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { يحسبون كل صيحة عليهم } ؟ [ المنافقون : 4 ] كانوا يحسبون من سوء ما يضمرون في قلوبهم من النفاق أن كل من كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما يكلمه{[21257]} بسببهم ، فكذلك الأول ، والله أعلم .

ثم قال ههنا : { نشهد } ولم يقل نشهد بالله ، لأن المعنى من هذا الحلف ، والحلف من المؤمنين في المتعارف إنما يكون بالله تعالى . فلذلك أجزأ بقوله : { نشهد } عن قوله : بالله ؛ فيكون هذا دليلا لقول أصحابنا : إن قوله { نشهد } يكون يمينا حين{[21258]} ذكر ههنا بطريق القسم ، والمعنى ما أشير إليه ، والله أعلم


[1]:- في ط ع: سمح.
[21250]:انظر معجم القراءات القرآنية ج 7/151.
[21251]:في الأصل وم: ويعلم.
[21252]:في الأصل وم: رسول الله
[21253]:من م، في الأصل: يقول.
[21254]:في الأصل وم: حيث.
[21255]:في الأصل وم: لقوا المشركين.
[21256]:في الأصل وم: جنس.
[21257]:في الأصل وم: يكلمهم.
[21258]:في الأصل وم: حيث.