تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ} (5)

الآيتان 5 و6 : وقوله تعالى : { فلينظر الإنسان مم خلق } { خلق من ماء دافق } فالأصل أن إمعان النظر في ما خلق منه الإنسان مما يوصل المنكرين للبعث والمنكرين للرسالة إلى القول ، وذلك أن النطفة التي خلق منها الإنسان ، لو رئيت موضوعة على طبق ، ثم رام أحد أن يعرف وأن ينتزع منها المعنى الذي به صلح أن تنشأ منها العلقة والمضغة ، وخلق منها الإنسان ، لم يدرك ولو اجتمع الإنس والجن على أن يركبوا عليها جارحة من جوارح الإنسان ، لم يتهيأ لهم تركيبها ، أو [ أن ]{[23459]} يعرفوا المعنى الذي [ به ]{[23460]} صلح أن ينشأ منه السمع والبصر ، لم يوفقوا له .

فتبين أن الذي بلغت قدرته هذا لا يخفى عليه أمر ، ولا يعجزه شيء ، وتبين لهم حكمته . وإذا عرفوا حكمته أداهم ذلك إلى القول بالبعث ، لأنه لولا البعث لكان{[23461]} يخرج إنشاء الخلق عبثا باطلا ، فيخرج عن أن يكون حكيما ، ولزمهم أن يصدقوا الرسل بجميع ما أخبرتهم .

وفيه دلالة خلق الشيء لا من شيء ، إذ لا يجوز أن يكون بكليته من النطفة مستحسنا ، فظهر أنه لا يسع في الشيء الواحد ما لا يحصى ذلك من الأضعاف ، ولا يجوز أن يكون ذلك عمل النطفة أيضا ، وإنها موات ، لا يحتمل أن تصير كذلك إلا تدبير مدبر عليهم ، فيكون في ما ذكرنا إيجاب القول بحدوث العالم . ولأنها لو صارت مضغة وعلقة وخلقا سويا بطبعها لكانت لا تخلو نطفة إلا هي تنتقل إلى ما ذكرنا .

ألا ترى أن النار لما كان من طبعها الإحراق ، والثلج إذا كان من طبعه التبريد لم يجز أن ينتقل واحد منهما عن طبعه الذي أنشيء عليه ؟ ثم قد وجدنا نطفا ، تخلو من هذه المعاني التي ذكرنا ، فثبت أنها نقلت إلى ما ذكرنا بتدبير حكيم مدبر لا بطبعها .

ثم الأعجوبة في ما فيه خلق الإنسان ليست بأقل من الأعجوبة مما منه خلق ؛ وذلك أن الإنسان خلق في الظلمات على ما أراد الله تعالى ، صورة كيف شاء . ولو أراد أحد أن يعلم علم ذلك أو يصور مثله في حالة العيان لم يملك [ أو يجعل ]{[23462]} ذلك المكان في ما ينمو فيه الولد ويتغذى{[23463]} فيه مخصوصا من بين سائر الأماكن ، ولو أراد حكماء الإنس والجن أن يعرفوا الوجه الذي به صلح ذلك المكان للنماء والغذاء ، وأعلموا فيه فنون العلم ، لم يعرفوا .

فمن تفكر في ما ذكرنا علم أن قدرته ذاتية ، لا يلحقها فناء ولا عجز ، وعلم أن علمه ذاتي ، ليس بمكتسب ، فيتوهم خفاء الأمور عليه .


[23459]:ساقطة من الأصل وم.
[23460]:ساقطة من الأصل وم.
[23461]:فيال وإلا كان.
[23462]:في الأصل وم: وجعل.
[23463]:في الأصل وم: ويغدو.