تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡۚ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡۚ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (67)

وقوله تعالى : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) ذكر في أهل الإيمان ( بعضهم أولياء بعض ) بقوله : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )[ التوبة : 71 ] وذكر في الكافرين الولاية لبعضهم ببعض بقوله : ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض )[ الأنفال : 73 ] وقال في المنافقين : ( بعضهم من بعض ) .

فهو والله أعلم ، أن لأهل الإيمان دينا[ في الأصل وم : دين ] يدينون به ، ويتناصرون ويدعون الناس إليه وأهل الكفر يدينون بدين ، يتناصرون به ، ويعاون[ في الأصل وم : ويتعاون ] بعضهم بعضا . فصار لكل واحد من الفريقين موالاة في ما بينهم موالاة الدين .

وأما المنافقون فإنهم لا دين لهم ، يدينون به ، ولا مذهب ينتحلونه ، ولا يناصر [ بعضهم بعضا ، ولا يعاون بعضهم بعضا ولا يجري بينهم التناصر ][ من م ، ساقطة من الأصل ] والتعاون . فإنما هم عباد النعمة والسعة ؛ مالوا حيثما مالت النعمة والسعة ، فلا موالاة في ما بينهم لما ذكرنا .

وفي قوله : ( والمنافقات ) دلالة أن من نافق بالتقليد لآخر [ ومن ][ ساقطة من الأصل وم ] نافق لا بتقليد سواء في استجاب الاسم والتعذيب في ذلك والوعيد ؛ لأن النساء هن[ في الأصل وم : من ] أتباع وأهل تقليد . ثم سوى بينهم وبين النساء في الاسم والوعيد .

وقوله تعالى : ( يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ ) يحتمل قوله : ( يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ ) أي ما تنكره العقول ، وهو الشرك بالله ، والخلاف له ( وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ ) أي ينهون عن ما تعرفه العقول ، وتستحسنه ، وهو التوحيد لله والإيمان به ، ويدخل في ذلك كل خير وحسن وفي المنكر يدخل الشرك وكل معصية .

وقوله تعالى : ( وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ) قيل : ( وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ) عن الإنفاق في سبيل الخير . لكن يحتمل أن يكون على التمثيل لا على تحقيق قبض اليد ، ولكن على كف النفس ومنعها من الاشتغال بالخيرات وخوضها فيها وفي جميع الطاعات .

ولكنه ذكر باليد لما بالأيدي يعمل وبها[ أدرج قبلها في الأصل : بها ، في م : بها ] تكتسب الخيرات والسيئات كقوله : ( ذوقوا عذاب الحريق ) ( ذلك بما قدمت أيديكم )[ آل عمران : 181-182 ] . وذلك مما لا تقدمه الأيدي ولا كسبت لكنه ذكر القلب لما ذكرنا أنه باليد ما يقدم ، وبها يقبض في الشاهد .

وجائز أن يكون ما ذكر من قبض كناية عن بخلهم وقلة إنفاقهم في الجهاد كقوله : ( ولا ينفقون إلا وهم كارهون )[ التوبة : 54 ] .

وقوله تعالى : ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) قيل [ فيه بوجوه :

أحدها ][ ساقطة من الأصل وم ] : جعلوا الله عز وجل كالشيء المنسي ، لا يذكرونه أبدا ، فنسيهم ؛ أي جعلهم كالمنسيين في الآخرة من رحمة لا ينالونها .

والثاني[ في الأصل وم : و ] : يحتمل ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) أي نسوا نعم الله التي أنعمها عليهم فلم يشكروها ، فنسيهم على المجازاة لذلك ، وإن لم يكن نسيا كما سمى جزاء السيئة سيئة ، وإن لم يكن الثاني سيئة . فعلى ذلك ذكر النسيان على مجازاة النسيان ، وإن لم يحتمل النسيان .

والثالث : ( نَسُوا اللَّهَ ) أي بسؤال المعونة والنصرة وسؤال التوفيق ( فنسيهم ) الله ، أي لم ينصرهم ولم يوفقهم .

وقوله تعالى : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ) فإن قيل : اسم النفاق أشر وأقبح من اسم الفسق ، فما معنى ذكر الفسق لهم ؟ فهو ، والله أعلم ، لأنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين باللسان ، فأخبر أنهم ليسوا على ما أظهروا ، و الله أعلم ، وأن يكون اسم النفاق أشر وأقبح عند الناس من اسم الفسق فعندهم يحتمل أن يكون اسم الفسق أكبر في القبح ، أو سماهم فاسقين لما أن كل أهل هذه الأديان يأنفون من النسبة إلى الفسق والتسمية به ، وأن يكونوا يعلمون في أنفسهم أنهم أهل نفاق ، ولا يعرفون أنهم فسقة . وأصل الفسق هو الخروج عن أمر الله .