تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يدبر الأمر}: يفصل القضاء وحده.
{من السماء إلى الأرض} فينزل به جبريل صلى الله عليه.
{ثم يعرج}: ثم يصعد الملك {إليه في يوم} واحد من أيام الدنيا.
{كان مقداره} أي مقدار ذلك اليوم {ألف سنة مما تعدون} أنتم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله هو الذي يدبر الأمر من أمر خلقه من السماء إلى الأرض، ثم يعرُج إليه.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله "ثُمّ يَعْرُجُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدّونَ"؛
فقال بعضهم: معناه: أن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض، ويصعد من الأرض إلى السماء في يوم واحد، وقدر ذلك ألف سنة مما تعدّون من أيام الدنيا... وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم من الأيام الستة التي خلق الله فيهنّ الخلق، كان مقدار ذلك اليوم ألف سنة مما تعدّون من أيامكم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض بالملائكة، ثم تعرج إليه الملائكة، في يَوْمٍ كان مقداره ألف سنة من أيام الدنيا...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض في يوم، كان مقدار ذلك التدبير ألف سنة مما تعدّون من أيام الدنيا، ثم يعرج إليه ذلك التدبير الذي دبره... وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إلى الله في يوم كان مقداره ألف سنة، مقدار العروج ألف سنة مما تعدّون...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم، كان مقدار ذلك اليوم في عروج ذلك الأمر إليه ونزوله إلى الأرض ألف سنة مما تعدون من أيامكم خمس مئة في النزول، وخمس مئة في الصعود، لأن ذلك أظهر معانيه، وأشبهها بظاهر التنزيل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} يخرّج على وجهين: أحدهما: {يدبر الأمر} أي هو يكون الأمر، ويدبره، أو يجعل الخلق بحيث يقبلون الأمر والنهي، ويحتملون المحنة، أو هو يخرج الأمر كله على الحكمة والتدبير.
الثاني: {يدبر الأمر} أي يولي من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض نحو ما ولى ملك الموت قبض أرواح الخلق، ونحو ما ولى ملائكته أمر الأمطار والنبات وغير ذلك...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} يعني القضاء من السماء فينزله إلى الأرض مدة أيام الدنيا {ثم يعرج إليه} أي يرجع الأمر والتدبير إلى السماء ويعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها {في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} وهو يوم القيامة وذلك اليوم يطول على قوم ويشتد حتى يكون كخمسين ألف سنة ويقصر على قوم فلا آخر له معلوم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الأمر} المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبراً.
{مِنَ السماء إِلَى الأرض} ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة؛ لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص ودل عليه قوله على أثره {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}.
{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي يصير إليه، ويثبت عنده، ويكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدّة: ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نفى أن يكون له شريك أو وزير في الخلق، ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه في ستة أيام من عالم الأرواح والأمر، فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء: {يدبر الأمر} أي كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه،ولما كان المقصود للعرب إنما هو تدبير ما تمكن مشاهدتهم له من العالم قال مفرداً: {من السماء} أي فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في أدبار ما يعلمه {إلى الأرض} غير متعرض إلى ما فوق ذلك، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم.
ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد، فكان بذلك مستبعداً، أشار إلى ذلك بقوله: {ثم يعرج} أي يصعد الأمر الواحد -وهو من الاستخدام الحسن- إليه، أي بصعود الملك إلى الله، أي إلى الموضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{يُدَبّرُ الامر مِنَ السماء إِلَى الأرض} فيه إشارة إلى أن تدبير العباد عند تدبيره عز وجل لا أثر له، فطوبى لمن رزق الرضا بتدبير الله تعالى واستغنى به عن تدبيره.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} القدري والأمر الشرعي، الجميع هو المتفرد بتدبيره، نازلة تلك التدابير من عند المليك القدير {مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} فَيُسْعِدُ بها ويُشْقِي، ويُغْنِي ويُفْقِرُ، ويُعِزُّ، ويُذِلُّ، ويُكرِمُ، ويُهِينُ، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين، ويُنزِّل الأرزاق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع الخلق والاستعلاء.. التدبير والتقدير.. في الدنيا والآخرة.. فكل أمر يدبر في السماوات والأرض وما بينهما يرفع إليه سبحانه في يوم القيامة، ويرجع إليه مآله في ذلك اليوم الطويل:
(يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون)..
والتعبير يرسم مجال التدبير منظورا واسعا شاملا: (من السماء إلى الأرض) ليلقي على الحس البشري الظلال التي يطيقها ويملك تصورها ويخشع لها. وإلا فمجال تدبير الله أوسع وأشمل من السماء إلى الأرض. ولكن الحس البشري حسبه الوقوف أمام هذا المجال الفسيح، ومتابعة التدبير شاملا لهذه الرقعة الهائلة التي لا يعرف حتى الأرقام التي تحدد مداها!
ثم يرتفع كل تدبير وكل تقدير بمآله ونتائجه وعواقبه. يرتفع إليه سبحانه في علاه في اليوم الذي قدره لعرض مآلات الأعمال والأقوال، والأشياء والأحياء (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون).. وليس شيء من هذا كله متروكا سدى ولا مخلوقا عبثا، إنما يدبر بأمر الله إلى أجل مرسوم.. يرتفع. فكل شيء وكل أمر وكل تدبير وكل مآل هو دون مقام الله ذي الجلال، فهو يرتفع إليه أو يرفع بإذنه حين يشاء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {يدبر الأمر} في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله تعالى {الله الذي خلق السماوات والأرض} [السجدة: 4]، أي: خلق تلك الخلائق مدبِّراً أمرها... والمقصود من حرفي الابتداء والانتهاء شمول تدبير الله تعالى الأمور كلها في العالمين العلوي والسفلي تدبيراً شاملاً لها من السماء إلى الأرض، فأفاد حرف الانتهاء شمول التدبير لأمورِ كل ما في السماوات والأرض وفيما بينهما.
والتدبير: حقيقته التفكير في إصدار فعل متقن أوله وآخره وهو مشتق من دُبُر الأمر، أي: آخره لأن التدبير النظر في استقامة الفعل ابتداء ونهاية. وهو إذا وصف به الله تعالى كنايةٌ عن لازم حقيقته وهو تمام الإتقان، وتقدم شيء من هذا في أول سورة يونس وأول سورة الرعد.
و {الأمر}: الشأن للأشياء ونظامُها وما به تقوُّمها. والتعريف فيه للجنس وهو مفيد لاستغراق الأمور كلها لا يخرج عن تصرفه شيء منها، فجميع ما نقل عن سلف المفسرين في تفسير الأمر يرجع إلى بعض هذا العموم.
والعروج: الصعود. وضمير {يَعْرُجُ} عائد على {الأَمْرَ}، وتعديته بحرف الانتهاء مفيدة أن تلك الأمور المدبَّرة تصعد إلى الله تعالى؛ فالعروج هنا مستعار للمصير إلى تصرف الخالق دون شائبة تأثير من غيره ولو في الصورة كما في أحوال الدنيا من تأثير الأسباب. ولما كان الجلال يشبَّه بالرفعة في مستعمل الكلام شبه المصير إلى ذي الجلال بانتقال الذوات إلى المكان المرتفع وهو المعبر عنه في اللغة بالعُروج، كما قال تعالى: {إليه يصعَد الكَلِم الطّيب والعملُ الصالحُ يرفعُه} [فاطر: 10]، أي: يرفعه إليه.
و {ثم} للتراخي الرتبي لأن مرجع الأشياء إلى تصرفه بعد صدورها من لدنه أعظم وأعجب.
وقد أفاد التركيب أن تدبير الأمور من السماء إلى الأرض من وقت خلقهما وخلق ما بينهما يستقر على ما دبر عليه كلٌّ بحسب ما يقتضيه حال تدبيره من استقراره، ويزول بعضه ويبقى بعضه ما دامت السماوات والأرض، ثم يجمع ذلك كله فيصير إلى الله مصيراً مناسباً لحقائقه؛ فالذوات تصير مصير الذوات والأعراض والأعمال تصير مصير أمثالها، أي: يصير وصفها ووصف أصحابها إلى علم الله وتقدير الجزاء، فذلك المصير هو المعبر عنه بالعروج إلى الله فيكون الحساب على جميع المخلوقات يومئذ.
واليوم من قوله {في يوم كان مقداره ألف سنة} هو اليوم الذي جاء ذكره في آية سورة الحج (47) بقوله: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} ومعنى تقديره بألف سنة: أنه تحصل فيه من تصرفات الله في كائنات السماء والأرض ما لو كان من عمل الناس لكان حصول مثله في ألف سنة، فلك أن تقدر ذلك بكثرة التصرفات، أو بقطع المسافات، وقد فُرضت في ذلك عدة احتمالات.
والمقصود: التنبيه على عظم القدرة وسعة ملكوت الله وتدبيره. ويظهر أن هذا اليوم هو يوم الساعة، أي ساعة اضمحلال العالم الدنيوي، وليس اليوم المذكور هنا هو يوم القيامة المذكور في سورة المعارج قاله ابن عباس. ولم يُعيِّن واحداً منهما، وليس من غرض القرّاء تعيين أحد اليومين ولكن حصول العبرة بأهوالهما.
وقوله {في يوم} يتنازعه كل من فعلي {يُدبر} و {يعرج} أي يحصل الأمران في يوم.
و {ألف} عند العرب منتهى أسماءِ العدد وما زاد على ذلك من المعدودات يعبر عنه بأعداد أخرى مع عدد الألف كما يقولون خمسة آلاف، ومائة ألف، وألف ألف.
وألف يجوز أن يستعمل كناية عن الكثرة الشديدة كما يقال: زرتُك ألفَ مرة، وقوله تعالى: {يود أحدهم لو يُعَمَّر ألف سنة} [البقرة: 96]، وهو هنا بتقدير كاف التشبيه أو كلمة نَحْوَ، أي كان مقداره كألف سنة أو نحو ألف سنة كما في قوله: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تَعُدُّون} [الحج: 47]. ويجوز أن يكون {ألف} مستعملاً في صريح معناه. وقوله: {مما تعدون}، أي: مما تحسبُون في أعدادكم، و {ما} مصدرية أو موصولية وهو وصف ل {ألف سنة}. وهذا الوصف لا يقتضي كون اسم ألف مستعملاً في صريح معناه لأنه يجوز أن يكون إيضاحاً للتشبيه فهو قريب من ذكر وجه الشبه مع التشبيه، وقد يترجح أن هذا الوصف لما كان في معنى الموصوف صار بمنزلة التأكيد اللفظي لمدلوله فكان رافعاً لاحتمال المجاز في العدد.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
إن من الواجب الإيمان بما جاء في القرآن من الأمور المغيبة مع وجوب الوقوف من ذلك عند ما وقف عنده القرآن دون تزيد ولا توسيع ولا سيما إذا لم يكن هناك أحاديث نبوية ثابتة كما هو الحال في هذه المسألة، وأنه لا طائل من التزيد مع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون فيما ورد في القرآن حكمة؛ وقد يتبادر أن من هذه الحكمة التنويه بقدرة الله وعظمة كونه ومطلق تصرفه كما قد يتبادر أن من هذه الحكمة قصد التقريب إلى الأذهان التي اعتادت أن تقيس الأمور بالحركات والأبعاد والأيام، وقصد بيان كون المسافات الشاسعة التي يستعظمها الناس هي بالنسبة لقدرة الله تعالى لا تعد شيئا، فالله سبحانه منزه عما تقتضيه الحركات من حدود وجسمانية وقدرته في غنى عن كل ذلك وليس للأبعاد معها معنى ولا قيام والله أعلم.
ولما نفى أن يكون له شريك أو{[54505]} وزير في الخلق ، ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه في ستة أيام من عالم الأرواح والأمر ، فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء : { يدبر الأمر } أي كل أمر هذا العالم {[54506]}بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه ، كما نظر في إقباله لإحكام{[54507]} فواتحه وعوازمه ، لا يكل شيئاً منه{[54508]} إلى شيء من خلقه ، قال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن استواءه{[54509]} على العرش بمعنى إظهار القدرة ، والعرش مظهر التدبير لا مقر المدبر .
ولما كان المقصود للعرب إنما هو{[54510]} تدبير ما تمكن {[54511]}مشاهدتهم له من العالم قال مفرداً : { من السماء } أي فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في أدبار ما يعلمه{[54512]} { إلى الأرض } غير متعرض إلى ما فوق ذلك ، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم .
ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد ، فكان بذلك مستبعداً ، أشار إلى ذلك بقوله : { ثم يعرج } أي{[54513]} يصعد الأمر الواحد - وهو من الاستخدام الحسن - إليه ، أي بصعود الملك إلى الله ، أي إلى الموضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى :{ إني ذاهب إلى ربي }{[54514]}[ الصافات : 99 ] { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله }{[54515]}[ النساء : 100 ] ونحو ذلك ، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير وهو السماء وكأنه صاعد في معارج ، وهي الدرج على ما تتعارفون{[54516]} بينكم ، في أسرع من لمح البصر { في يوم } من أيام الدنيا { كان مقداره } لو كان الصاعد{[54517]} واحداً منكم على ما تعهدون { ألف سنة مما تعدون } من سنيكم التي تعهدون ، والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ ، أما اللفظ فالتعبير ب " كان " مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك ، وأما العرف فهو{[54518]} أن الإنسان{[54519]} المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلاً ، فإذا فرّغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل ، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه {[54520]}إلا جزءاً لا يعد ، هذا وهو خلق محتاج فما ظنك بمن خلق الخلق في ستة أيام وهو غني عن كل شيء{[54521]} قادر على كل شيء وظاهر العبارة أن هذا التقدير بالألف لما بين السماء والأرض بناء على أن{[54522]} البداية والغاية لا يدخلان ، فإذا أردنا تنزيل هذه الآية على أية سأل{[54523]} أخذنا هذا بالنسبة إلى صعود أحدنا مستوياً لو أمكن ، وجعلت الأرض واحدة في العدد{[54524]} ، وأول تعددها كما قيل باعتبار الأقاليم ، وزيد عليه مقدار ثخن السماوات وما بينهما ، وزيد {[54525]}على المجموع{[54526]} مثل نصفه لمسافة الانحناء في بناء الدرج والتعريج الذي هو مثل محيط الدائرة بالوتر الذي قسمها بنصفين{[54527]} ليمكن الصعود منا ، وهو مقدار نصف مسافة الاستواء وشيء يسير ، لأنك إذا قسمت دائرة بوتر كان ما{[54528]} بين رأسي الوتر من محيط نصف الدائرة بمقدار ذلك الوتر مرة ونصفاً{[54529]} سواء يزاد عليه يسير لأجل تعاريج الدرج ، فإذا فعلنا ذلك كان ما بين أحد سطحي الكرسي المحدب وما يقابله من{[54530]} السطح الآخر بحسب اختراقه من جانبيه واخترق أطباق{[54531]} السماوات السبع : الأربعة عشر ، اثنين وثلاثين ألف سنة ، لأنه يخص كل سماء ألفان ، لأنه فهم من هذا السياق أن من مقعر السماء إلى سطح الأرض الذي نحن عليه سيرة ألف سنة وبعد{[54532]} ما بين كل سمائين كبعد ما بين السماء والأرض ، وثخن كل سماء كذلك ، فيكون بعد ما بين أحد{[54533]} سطحي الأرض إلى سطح الكرسي الأعلى ستة عشر ألف سنة ، وبعد{[54534]} ما بين سطح الأرض الآخرإلى أعلى سطح الكرسي من الجانب الآخر كذلك ، ثم يزاد على المجموع وهو اثنان وثلاثون ألف سنة مسافة ثخن الأرض وهي{[54535]} ألف سنة ليكون المجموع{[54536]} ثلاثة وثلاثين{[54537]} ألف سنة يزاد عليه ما للتعريج{[54538]} ، وهو نصف تلك المسافة وشيء يكون سبعة عشر ألف سنة{[54539]} ، فذلك خمسون ألف سنة ، وإنما جعلت سطح الكرسي الأعلى النهاية ، لأن العادة جرت أن لا يصعد إلى عرش الملك غيره ، وأن الأطماع تنقطع{[54540]} دونه ، بل و{[54541]} لا يصعد إلى كرسيه ، وسيأتي اعتبار ذلك في{[54542]} الوجه الأخير ، وإن قلنا{[54543]} : إن الأراضي سبع على{[54544]} أنها كرات مترتبة متعالية غير متداخلة ، وأدخلنا العرش في العدد فنقول : إنه مع الكرسي والسماوات تسعة ، فجانباها المحيطان{[54545]} بالأرض ثماني عشرة طبقة ، والأراضي{[54546]} سبع ، فتلك خمس وعشرون طبقة ، فكل{[54547]} واحدة - مع ما بينها وبين الأخرى على ما هو ظاهر الآية - ألفان ، فضعف هذا العدد ، فيكون خمسين ألفاً ، وهذا الوجه أوضح الوجوه وأقربها إلى مفهوم الآية ، ولا يحتاج معه إلى زيادة لأجل انعطاف الدرج ، ويجوز أن نقول : إن السر - والله أعلم - في جعل ما مسيرته خمسمائة سنة - كما في الحديث - ألف سنة لأجل التعريج{[54548]} ، والحديث ليس{[54549]} نصاً {[54550]}في سير{[54551]} معين حتى يتحامى تأويله بل{[54552]} قد ورد بألفاظ متغايرة منها خمسمائة ومنها اثنتان وسبعون سنة ، ومنها إحدى{[54553]} وسبعون إلى غير ذلك ، فلا بد أن يحمل كل لفظ على سير فنقول : الخمسمائة للصاعد في درج مستقيم كدرج الدقل مثلاً ، والاثنان وسبعون لسير الطائر ، والألف كما في الآية لدرج منعطف ، ويدل عليه ما رواه الترمذي - وقال : إسناده حسن - عن عبدالله بن عمرو بن العاص{[54554]} رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" لو أن رصاصة{[54555]} مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت{[54556]} من السماء إلى الأرض ، وهي مسيرة خمسمائة سنة ، لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة{[54557]} لسارت{[54558]} أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها " ، أو تقول : إن الألف لجملة التدبير بالنزول والعروج{[54559]} - والله أعلم ، وإن جعلنا البداية داخلة فتكون الألف من سطح الأرض الذي نحن عليه إلى محدب السماء لتتفق الآية مع الحديث القائل بأن{[54560]} بين الأرض والمساء خمسمائة سنة ، وثخن السماء كذلك ، وكذا بقية السماوات والعرش ، أدخلنا العرش في العدد وقلنا : إن الأراضي سبع متداخلة كالسماوات ، كل واحدة{[54561]} منها في التي تليها ، فالتي نحن فيها أعلاها ومحيطة بها كلها ، فهي بمنزلة العرش للسماوات ، فتكون السماوات السبع من جانبيها بأربعة عشر ألفاً ، والأراضي كذلك فذلك ثمانية وعشرون ألفاً ، والعرش والكرسي من جانبيها بأربعة فذلك اثنان وثلاثون ألفاً يضاف إليها{[54562]} ما يزيد انحناء المعارج الذي يمكن لنا معه{[54563]} العروج ، وهو نصف مسافة الجملة وشيء ، فالنصف ستة عشر ألفاً ، ونجعل الشيء الذي لم يتحرر{[54564]} لنا ألفين ، فذلك ثمانية عشر{[54565]} ألفاً إلى اثنين وثلاثين ، فالجملة خمسون ألفاً ويمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى السماوات مع الأراضي ، والكل متطابقة متداخلة ، فتلك ثمان وعشرون طبقة من سطح السماء السابعة الأعلى إلى سطحها الأعلى من الجانب الآخر ، فذلك ثمانية وعشرون{[54566]} - {[54567]}ألف سنة{[54568]} ، لكل جرم خمسمائة ، ولما بينه وبين الجرم الآخر كذلك فذلك ألف{[54569]} فضعفه بالنسبة إلى الهبوط والصعود فيكون ستة وخمسين{[54570]} ألفاً {[54571]}حسب منه خمسون ألفاً{[54572]} والغى الكسر ، لكن هذا الوجه مخالف لظاهر الآية التي{[54573]} في سورة سأل ، وهي{[54574]} قوله تعالى :
{ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة }[ المعارج : 5 ] فإنه ليس فيها ذكر الهبوط والله أعلم . وكل من {[54575]}هذه الوجوه أقعد مما قاله البيضاوي{[54576]} في سورة سأل ، وأقرب للفهم العرف ، فإن كان ظاهر حاله أنه جعل الثمانية عشر ألفاً {[54577]}من أعلى{[54578]} سرادقات العرش إلى أعلى سرادقاته من الجانب الآخر ، ولا دليل على{[54579]} هذا ولا عرف يساعد في صعود الخدم{[54580]} إلى أعلى السرادق ، وهو الأعلى منه ، والعلم عند الله تعالى ، وروى إسحاق بن راهويه عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم قال : " ما بين سماء الدنيا إلى الأرض خمسمائة سنة ، وما{[54581]} بين كل سماء إلى التي تليها خمسمائة سنة إلى السماء السابعة ، والأرض مثل{[54582]} ذلك ، وما بين السماء السابعة إلى{[54583]} العرش مثل جميع{[54584]} ذلك " واعلم أن القول بأن الأراضي سبع هو الظاهر لظاهر قوله تعالى :
{ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن }[ الطلاق : 12 ] ويعضده ما رواه الشيخان{[54585]} وغيرهما عن{[54586]} عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال{[54587]} : " من ظلم قدر{[54588]} شبر من الأرض{[54589]} طوقه الله{[54590]} من سبع أرضين " ، وفي رواية للبغوي{[54591]} : خسف به إلى سبع أرضين{[54592]} ، وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المؤمن إذا حضره الموت - فذكره إلى أن قال : وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب به إلى الأرض فتقول خزنة الأرض : ما وجدنا ريحا أنتن من هذه{[54593]} ، فيبلغ بها إلى الأرض{[54594]} السفلى " - قال المنذري{[54595]} : وهو عند ابن ماجه بسند صحيح ، ويؤيد من{[54596]} قال : إنها متطابقة متداخلة كالكرات{[54597]} وبين كل أرضين فضاء كالسماوات ما روى الحاكم وصححه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الأرضين بين كل أرض إلى التي تليها مسيرة خمسمائة سنة ، فالعليا منها على ظهر حوت " إلى آخره ، وهو في آخر الترغيب للحافظ المنذري في آخر أهوال القيامة في سلاسلها وأغلالها{[54598]} ، وروى أبو عبيد القاسم{[54599]} بن سلام في غريب الحديث{[54600]} عن مجاهد رحمه الله أنه قال : إن الحرم حرم مناه من السماوات السبع والأرضين السبع ، وأنه رابع أربعة عشر بيتاً ، في كل سماء بيت ، وفي كل أرض بيت ، لو سقطت لسقط بعضها على بعض - مناه يعني قصده وحذاءه ، وفي مجمع الزوائد{[54601]} للحافظ نور الدين الهيثمي أن الإمام أحمد روى من طريق الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه إذا مرت سحابة فقال{[54602]} : هل تدرون ما هذه ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ! قال{[54603]} : العنان وزوايا الأرض يسوقه الله إلى من لا يشكره ، ولا يدعوه ، أتدرون ما هذه فوقكم ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ! قال : الرفيع موج مكفوف ، وسقف محفوظ ، أتدرون كم بينكم وبينها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ! قال : مسيرة خمسمائة عام ، ثم قال : أتدرون ما الذي{[54604]} فوقها ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم{[54605]} ! قال : سماء أخرى ، أتدرون كم {[54606]}بينكم وبينها{[54607]} ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ! قال : مسيرة{[54608]} خمسمائة عام - حتى عد سبع سماوات ثم{[54609]} قال : {[54610]}هل تدرون{[54611]} ما فوق ذلك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ! قال{[54612]} : العرش ، قال{[54613]} : أتدرون كم{[54614]} بينه وبين السماء السابعة ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ؟ قال : مسيرة{[54615]} {[54616]}خمسمائة عام ، ثم قال : ما هذه تحتكم ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ؟ قال{[54617]} : أرض قال : أتدرون ما تحتها ؟ قلنا الله ورسوله أعلم ! قال{[54618]} : أرض أخرى ، أتدرون كم بينهما ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ! قال : مسيرة سبعمائة عام حتى عد سبعين أرضين ، ثم قال : وأيم الله لو دليتم بحبل لهبط ، ثم قرأ :
( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم }{[54619]}[ الحديد : 3 ] قال : رواه الترمذي غير أنه ذكر أن{[54620]} بين كل أرض والأرض{[54621]} الأخرى خمسمائة عام ، وهنا سبعمائة ، وقال في آخره{[54622]} : " لو دليتم بحبل
لهبط على الله " ولعله أراد : على{[54623]} عرش الله أو على حكمه {[54624]}وعلمه{[54625]} وقدرته ، يعني أنه في ملكه وقبضته ليس خارجاً{[54626]} عن شيء من أمره - والله أعلم{[54627]} ، ورأيت{[54628]} في جامع الأصول لابن الأثير بعد إيراده{[54629]} هذا الحديث ما نصه{[54630]} قال أبو عيسى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد : لهبط على علم{[54631]} الله وقدرته وسلطانه ويكون مؤيداً للقول بأنها كرات متطابقة متداخلة - والله أعلم - ما روى{[54632]} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما السماوات السبع والأرضون السبع في العرش إلا كحلقة ملقاة في{[54633]} فلاه " ولم يقل : كدرهم - مثلاً ، وكذا ما روى محمد بن أبي عمر وإسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه حديثاً طويلاً فيه ذكر الأنبياء ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تدري ما مثل السماوات والأرض في{[54634]} الكرسي ؟ قلت : لا إلا أن{[54635]} تعلمني مما{[54636]} علمك الله عز وجل ، قال : مثل السماوات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في{[54637]} فلاة ، وإن فضل الكرسي على السماوات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة " وأصله عند النسائي والطيالسي وأبي يعلى ، وكذا ما روى{[54638]} صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما السماوات السبع{[54639]} في عظمة الله إلا كجوزة معلقة " ، وقوله تعالى{[54640]} :
{ وسع كرسيه السماوات والأرض }[ البقرة : 255 ] يدل على أن الكرسي محيط بالكل من جميع الجوانب وقوله{[54641]} تعالى :
{ إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا }[ الرحمن : 33 ] صريح في ذلك ، فإن النفوذ يستعمل في الخرق لا سيما مع التعبير ب " من " دون " في " ، وكذا قوله{[54642]} في السماء { ومالها من فروج }{[54643]} والله الموفق .