جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلما ضُربَ ابْنُ مَرْيَم مَثَلاً" يقول تعالى ذكره: ولما شبه الله عيسى في إحداثه وإنشائه إياه من غير فحل بآدم، فمثّله به بأنه خلقه من تراب من غير فحل، إذا قومك يا محمد من ذلك يضجون ويقولون: ما يريد محمد منا إلاّ أن نتخذه إلها نعبده، كما عبدت النصارى المسيح.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم بنحو الذي قلنا فيه...
وقال آخرون: بل عنى بذلك قول الله عزّ وجلّ: "إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أنْتُمْ لَهَا وَارِدُون "قِيل المشركين عند نزولها: قد رضينا بأن تكون آلهتنا مع عيسى وعُزَير والملائكة، لأن كل هؤلاء مما يُعبد من دون الله، قال الله عزّ وجلّ: "ولَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ وقالوا: أآلهتنا خير أم هو "؟...
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "يَصِدّونَ"، فقرأته عامة قرّاء المدينة، وجماعة من قرّاء الكوفة: «يَصُدّونَ» بضم الصاد. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة والبصرة يَصِدّونَ بكسر الصاد.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين ذلك إذا قُرئ بضم الصاد، وإذا قُرئ بكسرها؛ فقال بعض نحويّي البصرة، ووافقه عليه بعض الكوفيين: هما لغتان بمعنى واحد، مثل يشُدّ ويشِدّ، ويَنُمّ ويَنِمّ من النميمة. وقال آخر منهم: من كسر الصاد فمجازها يضجون، ومن ضمها فمجازها يعدلون. وقال بعض من كسرها فإنه أراد يضجون، ومن ضمها فإنه أراد الصدود عن الحقّ...
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان بمعنى واحد، ولم نجد أهل التأويل فرّقوا بين معنى ذلك إذا قرىء بالضمّ والكسر، ولو كان مختلفا معناه، لقد كان الاختلاف في تأويله بين أهله موجودا وجود اختلاف القراءة فيه باختلاف اللغتين، ولكن لما لم يكن مختلف المعنى لم يختلفوا في أن تأويله: يضجون ويجزعون، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فقد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لتمام قدرته على اختراع الأشياء بأسباب وبغير أسباب، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر، فاقتدى به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة، وصاروا يفرحون بما لا يرضاه عاقل ولا يراه، وضربه قومك مثلاً لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا: {ولما ضرب ابن مريم} أي ضربه ضارب منهم {مثلاً} لآلهتهم {إذا قومك} أي الذين أعطيناهم قدرة على القيام بما يحاولونه {منه} أي ذلك المثل {يصدون} أي يضجون ويعلون أصواتهم سروراً بأنهم ظفروا على زعمهم بتناقض، فيعرضون به عن إجابة دعائك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
التعبير عن قريش بعنوان {قومك}؛ للتعجيب منهم كيف فرحوا من تغلب ابن الزبعرَى على النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم في أمر عيسى عليه السلام، أي مع أنهم قومك وليسوا قوم عيسى ولا أتباع دينه فكان فرحهم ظلماً من ذوي القربى.
{ ولما ضرب ابن مريم مثلا } نزلت هذه الآية حين خاصمه الكفار لما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله } الآية فقالوا رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى فجعلوا عيسى عليه السلام مثلا لآلهتهم فقال الله تعالى { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } أي يضجون وذلك أن المسلمين ضجوا من هذا حتى نزل قوله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون }
لما قال تعالى : " وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " [ الزخرف : 45 ] تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا : ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم إلها ، قاله قتادة . ونحوه عن مجاهد قال : إن قريشا قالت إن محمدا يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى ، فأنزل الله هذه الآية . وقال ابن عباس : أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى ، وأن الضارب لهذا المثل هو عبد الله بن الزبعرى السهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمدا يتلو : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " {[13655]} [ الأنبياء : 98 ] الآية ، فقال : لو حضرته لرددت عليه ، قالوا : وما كنت تقول له ؟ قال : كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى ، واليهود تعبد عزيرا ، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم ، وذلك معنى قوله : " يصدون " فما نزل الله تعالى : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " {[13656]} [ الأنبياء : 101 ] . ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها ؛ لأنه قال : " وما تعبدون " ولم يقل ومن تعبدون وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل ، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإن كانوا معبودين . وقد مضى هذا في آخر سورة " الأنبياء " {[13657]} .
وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش : [ يا معشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله ] . قالوا : أليس تزعم أن عيسى كان عبدا نبيا وعبدا صالحا ، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله ! . فأنزل الله تعالى : " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك يصدون " أي يضجون كضجيج الإبل عند حمل الأثقال . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي " يصدون " ( بضم الصاد ) ومعناه يعرضون ، قاله النخعي ، وكسر الباقون . قال الكسائي : هما لغتان ، مثل يعرشون ويعرشون وينمون وينمون ، ومعناه يضجون . قال الجوهري : وصد يصد صديدا ، أي ضج . وقيل : إنه بالضم من الصدود وهو الإعراض ، وبالكسر من الضجيج ، قاله قطرب . قال أبو عبيد : لو كانت من الصدود عن الحق لكانت : إذا قومك عنه يصدون . الفراء : هما سواء ، منه وعنه . ابن المسيب : يصدون يضجون . الضحاك : يعجون . ابن عباس : يضحكون . أبو عبيدة : من ضم فمعناه يعدلون ، فيكون المعنى : من أجل الميل يعدلون . ولا يعدى " يصدون " بمن ، ومن كسر فمعناه يضجون ، ف " من " متصلة ب " يصدون " والمعنى يضجون منه .
فقد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لتمام قدرته على اختراع الأشياء بأسباب وبغير أسباب ، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر ، فاقتدى به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به ، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة ، وصاروا يفرحون بما لا يرضاه عاقل ولا يراه ، وضربه قومك مثلاً لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا : { ولما ضرب ابن مريم } أي ضربه ضارب منهم { مثلاً } لآلهتهم { إذا قومك } أي الذين أعطيناهم قدرة على القيام بما يحاولونه { منه } أي ذلك المثل { يصدون } أي يضجون ويعلون أصواتهم سروراً بأنهم ظفروا على زعمهم بتناقض ، فيعرضون به عن إجابة دعائك ، يقال : صد عنه صدوداً : أعرض ، وصد يصد ويصل : ضج - قاله في القاموس ، فلذلك قال ابن الجوزي : معناهما جميعاً - أي قراءة ضم الصاد وقراءة كسرها - يضجون ، ويجوز أن يكون معنى المضمومة : يعرضون ، قال ابن برجان : والكسر أعلى القراءتين - انتهى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.