اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ يَصِدُّونَ} (57)

قوله تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً } اعلم أنه تعالى ذكر أنواعاً كثيرة من كفراناتهم ، فأولها : قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } [ الزخرف : 15 ] .

وثانيها : قوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] .

وثالثها : قوله : { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] .

ورابعها : قوله : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .

وخامسها : هذه الآية : وليس في لفظها ما يدل على أن ذلك المثل أي شيء كان والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً :

أشهرها : قال ابن عباس وأكثر المفسرين : نزلت الآية في مجادلة عبد الله بن الزِّبَعْرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام لما نزل قول الله عز وجل : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] كما تقدم في سورة الأنبياء .

والمعنى : ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً ، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه «إِذَا قَوْمُكَ » من قريش «مِنْهُ » أي من هذا المثل «يَصِدُّونَ » أي يرتفع لهم ضجيج فرحاً بسبب ما رأوا من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصْمَيْن إذا انقطع ، أظهر الخصْمُ الثاني الفرحَ والضَّجيجَ .

وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إِلَهاً لأنفسهم قالت كفار قريش : إن محمداً يريد أن يجعل نفسه لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إِلَهاً لأنفسهم فعند هذا قالوا : { أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } فعند ذلك قالوا : إن محمداً يدعونا لعبادة نفسه وآباؤنا زعموا أنه يجبُ عبادة هذه الأصنام وإذا كان لا بد من عبادة أحد هذين فعبادة الأصنام أولى ؛ لأن آبائنا وأسلافنا أجمعوا على ذلك ، وأما محمد فإنه متهمٌ في أمرنا بعبادته . ثم إنه تعالى لم يقل : إن عبادة المسيح طريق حسن ، بل هو كلام باطل ، وأن عيسى ليس إلا عبداً أنْعَمْنَا عَلَيْه فزالت شبهتهم في قولهم : إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه{[49988]} .

وقيل : إن الكفار لما رأوا النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبد النصارى عيسى فآلهتنا خير من عيسى فعبدوا الملائكة{[49989]} .

قوله : «يَصُدُّونَ » قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويصدون بضم الصاد والباقون بكسرها ، فقيل : هما بمعنى واحد . وهو الصحيح واللفظ ، يقال : صَدَّ يَصُد ويَصِدُّ كَعَكَفَ يَعْكُفُ ويَعْكِفُ وعَرَشَ يَعْرُشُ وَيَعْرِشُ{[49990]} .

قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ){[49991]} يضْجَرون . وقال سعيد بن المسيب : يصيحون . وقال الضحاك : يعِجُّون . وقال قتادة : يجْزَعون ، وقال القُرَظِيُّ{[49992]} : يضجرون . وقيل : الضَّم من الصّدود{[49993]} وهو الإعراض وقد أنكر ابن عَبَّاس الضم ، وقد روي له عن علي رضي الله عنه .

وهذا واللهُ أَعْلَمُ قبل بلوغه تواتره{[49994]} .


[49988]:وانظر في هذا تفسير الرازي 27/220 و221 والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 16/103.
[49989]:المرجع السابق وانظر معاني الزجاج 4/416.
[49990]:وقراءة الكسر أكثر كما قال الزجاج: ويقرأ يصدون بضم الصاد والكسر أكثر ومعناهما جميعا يضجون. ويجوز أن يكون معنى المضمومة يعرضون. وانظر معاني الفراء 3/36 و37 وإبراز المعاني 680 والكشاف 3/493 ومجاز القرآن 2/205 وغريب القرآن 440 وهي قراءة متواترة. انظر الكشف لمكي 2/260 والسبعة 587.
[49991]:زيادة من أ.
[49992]:في النسختين القرطبي وهو خطأ مكرر كالعادة. والأصح ما أثبت أعلى وهو الإمام محمد بن كعب القرظي. وانظر هذه الأقوال في القرطبي 16/103.
[49993]:وهو قول قطرب المرجع السابق.
[49994]:انظر البحر المحيط 8/25.