فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ يَصِدُّونَ} (57)

ولما قال سبحانه { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ } تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا ما يريد محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن نتخذه إلها ، كما اتخذ النصارى عيسى بن مريم فأنزل الله { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } كذا قال قتادة ومجاهد .

وقال الواحدي : أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعري مع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } قال ابن الزبعري : خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح ، واليهود عزيرا ؟ وبنو مليح الملائكة ؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا به ، وضحكوا وارتفعت أصواتهم ، فأنزل الله { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } ونزلت هذه الآية المذكورة هنا ، وقد مضى هكذا في سورة الأنبياء ، ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعري مندفع من أصله ، وباطل برمته فإن الله سبحانه قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } ولم يقل : ومن تعبدون ، حتى يدخل في ذلك العقلاء كالمسيح وعزير والملائكة ، قال الشهاب : ابن الزبعري هو عبد الله الصحابي المشهور ، وهذه القصة على تقدير صحتها كانت قبل إسلامه .

{ إِذَا قَوْمُكَ } يا محمد صلى الله عليه وسلم { مِنْهُ } أي من ذلك المثل المضروب { يَصِدُّونَ } أي يضجون ويصيحون ، فرحا بذلك المثل المضروب ، والمراد بقومه هنا كفار قريش ، إذ ظنوا أنه ألزم وأفحم النبي صلى الله عليه وسلم به ، وهو إنما سكت انتظارا للوحي .

قرأ الجمهور : يصدون بكسر الصاد ، وقرئ بضمها ، وهما سبعيتان قال الكسائي والفراء والزجاج والأخفش : هما لغتان ومعناهما يضجون ، قال الجوهري : صد يصد صديدا أي ضج ، وقيل : إنه بالضم للإعراض ، وبالكسر من الضجيج ، قاله قطرب ، قال أبو عبيدة : لو كانت من الصدود عن الحق يقال : إذا قومك عنه يصدون ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش : ( إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير ، قالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا ؟ وعبدا من عباد الله صالحا ؟ وقد عبدته النصارى ، فإن كنت صادقا فإنه كآلهتهم ، فأنزل الله : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } الآية ، قلت : وما يصدون ؟ قال : يضجون .