فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (23)

{ وراودته } أي حين بلغ مبلغ الرجال قاله ابن زيد وهذا رجوع إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه وقوله { وكذلك مكنا ليوسف } إلى هنا اعتراض جيء به نموذجا للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه يوسف من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه محسن في جميع أحواله لم يصدر عنه في حالتي السراء والضراء ما يخل بنزاهته ولا يخفى أن مدار حسن التخلص على هذا الاعتراض قبل تمام الآية الكريمة إنما هو التمكين البالغ المفهوم من كلام العزيز .

والمراودة الإرادة والطلب برفق ولين ، وقيل هي مأخوذة من الرود أي الرفق والتأني يقال أرودني أي أمهلني وقيل مأخوذة من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء كان المعنى أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال رواد فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منهما الوطء والجماع وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المديون ومداواة الطبيب ونظائرها مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه .

وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقام مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى ، فإن فعل البادئ وإن لم يكن جزاء أطلق عليه اسم لكونه سببا للجزاء وهذه قاعدة مطردة مستمرة فكان يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن والجمال سببا لمراودة امرأة العزيز له مراودا والمراد بالمفاعلة مجرد المبالغة وقيل الصيغة على بابها بمعنى أنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك .

وإنما قال { التي هو في بيتها عن نفسه } ولم يقل امرأة العزيز أو زليخا قصدا إلى زيادة التقرير فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك قيل لواحدة ما حملك على ما أنت عليه مما لا خير فيه قالت قرب الوساد وطول السواد ، ولإظهار كمال نزاهته عليه الصلاة والسلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت ملكها ينادي بكونه في أعلى معارج العفة والنزاهة والعدول عن اسمها للمحافظة على الستر أو للاستهجان بذكرها قال قتادة : هي امرأة العزيز .

{ وغلقت الأبواب } أي أطبقتها قيل في هذه الصيغة ما يدل على التكثير لتعدد المحال وهي الأبواب فيقال غلق الأبواب ولا يقال غلق الباب بل يقال أغلق وقد يقال أغلق الأبواب قيل وكانت الأبواب سبعة كما في البيضاوي وغيره وأنها أغلقتها لشدة خوفها .

{ وقالت هيت لك } قرأ أبو عمر وعاصم والأعمش والكسائي بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء وبها قرأ ابن عباس وابن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة ككيف وليت قال ابن مسعود : لا تنطعوا في القراءة فإنما هو مثل قول أحدكم هلم وتعال .

وقرأ أبو إسحاق النحوي بكسر التاء وقرأ ابن كثير وغيره بضم التاء مع فتح الهاء وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وفتح التاء بوزن قيل وغيض وهذه القراءات سبعية وقرأ علي وابن عباس بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء وهذه كلها لغات في هذه الكلمة وهي في كلها اسم فعل بمعنى هلم وتعال أي أقبل إلا في قراءة كسر الهاء بعدها همزة وتاء مضمومة فإنها تهيأت لك وأنكرها أبو عمروا وقال : باطل جعلها بمعنى تهيأت أذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هكذا وأنكرها أيضا الكسائي .

وقال النحاس : هي جيدة عند البصريين لأنه يقال هاء الرجل ويهيئ هيأة ورجح الزجاج القراءة الأولى وتكون اللام في لك على القراءة الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان أي لك أقول هذا كما في هلم لك قال النحويون : هيت جاء بالحركات الثلاث فالفتح للخفة والكسر لالتقاء الساكنين والضم تشبيها بحيث ، وإذا بين باللام نحو هيت لك فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له أي لك ، أقول هذا وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي اقبل .

وقال في الصحاح : يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه وقد روي عن ابن عباس والحسن : أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها وقال الكسائي هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناها تعال قال أبو عبيدة فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم وعن ابن عباس معناه : هلم لك بالقبطية .

وقال الحسن : أي عليك بالسريانية وقيل هي العبرانية ومن قال أنها بغير لغة العرب يقول أن العرب وافقت أصحاب هذه اللغة فتكلمت بها على وفق لغات غيرهم كما وافقت لغة العرب الروم في القسطاس ولغة العرب الفرس في التنور ولغة العرب الترك في الغساق ولغة العرب الحبشة في ناشئة الليل وبالجملة فإن العرب إذا تكلمت بكلمة صارت لغة لها وعن مجاهد أنها لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها .

{ قال معاذ الله } أي أعود بالله معاذا مما دعوتني إليه يقال عاذ يعوذ عياذا ومعاذا وعوذا مصدر بمعنى الفعل { إنه } أي الذي اشتراني { ربي } تعليل للامتناع الكائن فكأنه قيل أن الشأن الخطير هذا هو ربي أي سيدي الذي رباني العزيز { أحسن مثواي } حيث أمرك بقوله أكرمي مثواه فكيف أخونه في أهله وأجيبك على ما تريدين من ذلك وقال الزجاج : إن الضمير لله سبحانه أي إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرمه .

قال مجاهد والسدي وابن إسحاق : يبعد جدا أن يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه ولو بمعنى السيد لأنه ليس مملوكا في الحقيقة والأول فيه إرشادها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه { إنه لا يفلح الظالمون } تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها والفلاح الظفر والمعنى أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم ومن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف وقيل معناه أنه لا يسعد الزناة .