الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (23)

قوله تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ } : أي : طالَبَتْه برفقٍ ولين قولٍ ، والمُراوَدَةُ المصدر ، والرِّيادة : طَلَبُ النِّكاح ، ومَشَى رُوَيْداً ، أي : ترفَّق في مِشْيتِه ، والرَّوْدُ ، الرِّفْقُ في الأمور والتأنِّي فيها ، ورادَتِ المرأةُ في مَشْيها تَرُوْدُ رَوَدَاناً من ذلك ، والمِرْوَدُ هذه الآلةُ منه ، والإرادةُ منقولةٌ مِنْ راد يرود إذا سعى في طلب حاجة ، وقد تقدَّم ذلك في البقرة ، وتعدَّى هنا ب " عن " لأنه ضُمِّن معنى خادَعَتْ ، أي : خادَعَتْه عن نفسه ، والمفاعلةُ هنا من الواحد نحو : داوَيْتُ المريض ، ويحتمل أن تكون على بابها ، فإنَّ كلاً منهما كان يطلبُ مِنْ صاحبه شيئاً برفق ، هي تطلُب منه الفعلَ وهو يطلبُ منها التركَ . والتشديد في " غَلَّقَتْ " للتكثير لتعدُّد المجال .

قوله : { هَيْتَ لَكَ } اختلف أهلُ النحوِ في هذه اللفظة : هل هي عربيةٌ أم معرَّبةٌ ، فقيل : معربةٌ من القبطية بمعنى هلمَّ لك ، قاله السدي . وقيل : من السريانية ، قاله ابن عباس والحسن . وقيل : هي من العبرانية وأصلها هَيْتَلَخ ، أي : تعالَه فأعربه القرآن ، قاله أبو زيد الأنصاري . وقيل : هل لغة حَوْرانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلَّموا بها ومعناها تعال ، قاله الكسائي والفراء ، وهو منقولٌ عن عكرمة . والجمهور على أنها عربية ، قال مجاهد : " هي كلمة حَثٍّ وإقبال ، ثم هي في بعض اللغات تَتَعَيَّن فعليَّتُها ، وفي بعضها اسميتُها ، وفي بعضها يجوز الأمران ، وستعرف ذلك من القراءات المذكورة فيها :

فقرأ نافع وابن ذكوان " هِيْتَ " بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة . وقرأ " هَيْتُ " بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاء مضمومة ابنُ كثير . وقرأ " هِئْتَ " بكسر الهاء وهمزةٍ ساكنة وتاءٍ مفتوحةٍ أو مضمومةٍ هشامٌ . وقرأ " هَيْتَ " بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مفتوحةٍ الباقون ، فهذه خمس قراءات في السبع .

وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن وابن محيصن بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مكسورة . وحكى النحاس أنه قُرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة . وقرأ ابن عباس أيضاً " هُيِيْتُ " بضم الهاء وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة حُيِيْتُ . وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة . فهذه أربع في الشاذ فصارت تسع قراءات . فيتعيَّن كونُها اسمَ فعل في غير قراءة ابن عباس " هُيِيْتُ " بزنة حُيِيْتُ . وفي غيرِ قراءة كسر الهاء سواءً كان ذلك بالياء أم بالهمز : فَمَنْ فَتَحَ التاء بناها على الفتح تخفيفاً نحو : أيْنَ وكَيْفَ ، ومَنْ ضَمَّها كابن كثير فتشبيهاً ب " حيث " ، ومَنْ كسر فعلى أصلِ التقاء الساكنين كجَيْرِ ، وفَتْحُ الهاء وكَسْرُها لغتان .

ويَتَعَيَّنُ فعليَّتُها في قراءة ابن عباس " هُيِيْتُ " بزنة " حُيِيْت " فإنها فيها فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول مسندٌ لضمير المتكلم مِنْ هَيَّأْتُ الشيءَ ، ويحتمل الأمرين في قراءةِ مَنْ كسر الهاء وضمَّ التاء ، فيحتملُ أن تكونَ فيه اسمَ فعلٍ بُنِيَتْ على الضمِّ كحَيْثُ ، وأن تكونَ فعلاً مسنداً لضمير المتكلم مِنْ هاءَ الرجلُ يَهِيءُ كجاء يَجيء وله حينئذٍ معنيان ، أحدهما : أن يكون بمعنى حَسُنَ هَيْئَةً .

والثاني : أن يكونَ بمعنى تهيَّأ ، يُقال : هِئْتُ ، أي : حَسُنَتْ هيئتي أو تهيَّأْتُ . وجوَّز أبو البقاء أن تكون " هِئْتُ " هذه مِنْ : هاءَ يَهاء ، كشاء يشاء .

وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام التي بالهمز وفتح التاء ، فقال الفارسي : " يشبه أن [ يكون ] الهمز وفَتْحُ التاء وَهْماً من الراوي ، لأنَّ الخطاب مِن المرأة ليوسف ولم يتهيَّأْ لها بدليل قوله : " وراوَدَتْه " و { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } [ يوسف : 52 ] وتابعه على ذلك جماعة . وقال مكي بن أبي طالب : " يجب أن يكون اللفظُ " هِئْتِ لي " ولم يَقْرأ بذلك أحدٌ " وأيضاً فإن المعنى على خلافِه لأنه لم يَزَلْ/ يَفِرُّ منها ويتباعد عنها ، وهي تراوِدُه وتطلبه وتَقُدُّ قميصه ، فكيف يُخْبر أنها تهيَّأ لها ؟

وقد أجاب بعضهُم عن هذين الإِشكالين بأن المعنى : تهيَّأ لي أمرُك ، لأنها لم تكنْ تقدِر على الخَلْوَة به في كل وقت ، أو يكون المعنى : حَسُنَتْ هيئتك .

و " لك " متعلقٌ بمحذوف على سبيل البيان كأنها قالت : القول لك أو الخطاب لك ، كهي في " سقياً لك ورعياً لك " . قلت : واللامُ متعلقةٌ بمحذوف على كل قراءة إلا قراءةً ثبت فيها كونُها فعلاً ، فإنها حينئذٍ تتعلَّقُ بالفعل ، إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ .

وقال أبو البقاء : " والأشبهُ أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من الياء ، أو تكونَ لغةً في الكلمة التي هي اسم للفعل ، وليست فعلاً لأن ذلك يوجب أن يكونَ الخطابُ ليوسف عليه السلام ، وهو فاسدٌ لوجهين ، أحدهما : أنه لم يتهيَّأ لها وإنما هي تهيَّأَتْ له . والثاني : أنه قال لك ، ولو أرادَ الخطابَ لكان هِئْتَ لي " . قلت : قد تقدَّم جوابُه . وقوله : " إن الهمزة بدلٌ من الياء " هذا عكسُ لغة العرب إذ قد عَهِدْناهم يُبْدلون الهمزة الساكنة ياءً إذا انكسر ما قبلها نحو : بير وذيب ، ولا يَقْبلون الياءَ المكسورَ ما قبلها همزةً نحو : مِيل ودِيك ، وأيضاً فإن غيرَه جعل الياءَ الصريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع وابن ذكوان محتملةً لأَنْ تكونَ بدلاً من الهمزة ، قالوا : فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام . واعلم أنَّ القراءةَ التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشام ، وأمَّا ضمُّ التاءِ فغيرُ مشهورٍ عنه ، وهذا قد أَتْقَنْتُه في شرح " حِرْز الأماني " .

قوله : { مَعَاذَ اللَّهِ } منصوبٌ على المصدر بفعلٍ محذوف ، أي : أعوذُ باللَّه مَعاذاً : يُقال : عاذ يَعُوذ عِياذاً وعِياذة ومَعاذاً وعَوْذاً ، قال :

2764 معاذَ الإِله أن تكونَ كظَبْيَةٍ *** ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةِ رَبْرَبِ

قوله : { إِنَّهُ } يجوز أن تكونَ الهاءُ ضميرُ الشأن وما بعده جملةٌ خبريةٌ له ، ومرادُه بربه سيِّدُه ، ويحتمل أن تكونَ الهاء ضمير الباري تعالى . و " ربِّي " يحتمل أن يكونَ خبرَها ، و " أَحْسَنَ " جملةٌ حاليةٌ لازمة ، وأن تكون مبتدأً ، و " أحسن " جملة خبرية له ، والجملةُ خبرٌ ل " إنَّ " . وقد أنكر جماعةٌ الأولَ ، قال مجاهد والسدي وابن إسحاق . يبعد جداً أن يُطْلِق نبيٌّ كريمٌ على مخلوقٍ أنه ربه ، ولا بمعنى السيد لأنه ليس مملوكاً في الحقيقة .

وقرأ الجحدري وأبو الطفيل الغنوي " مَثْوَيَّ " بقَلْبِ الألف ياءً وإدغامها كبُشْرَيّ وهُدَيّ .

و { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ } هذه الهاءُ ضمير الشأن ليس إلا .