فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (23)

المراودة : الإرادة والطلب برفق ولين وقيل : هي مأخوذة من الرود أي : الرفق والتأني ، يقال أرودني : أمهلني ؛ وقيل : المراودة مأخوذة من راد يرود : إذا جاء وذهب . كأن المعنى : أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع ، ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ ، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال : راود فلان جاريته عن نفسها ، وراودته هي عن نفسه : إذا حاول كل واحد منهما الوطء والجماع ، وهي مفاعلة ، وأصلها أن تكون من الجانبين ، فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قائماً مقام المسبب ، فكأن يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن سبباً لمراودة امرأة العزيز له مراود . وإنما قال : { التي هُوَ فِي بَيْتِهَا } ولم يقل : امرأة العزيز ، وزليخا قصداً إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة والمحافظة على الستر عليها { وَغَلَّقَتِ الأبواب } قيل : في هذه الصيغة ما يدلّ على التكثير ، فيقال : غلق الأبواب ، ولا يقال : غلق الباب ، بل يقال : أغلق الباب ، وقد يقال : أغلق الأبواب ، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء :

ما زلت أغلق أبواباً وأفتحها *** حتى أتيت أبا عمرو بن عمار

قيل : وكانت الأبواب سبعة .

قوله : { هَيْتَ لَكَ } . قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، والكسائي ، وحمزة ، والأعمش بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء ، وبها قرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة . قال ابن مسعود : لا تنطعوا في القراءة ، فإنما هو مثل قول أحدكم : هلمّ وتعال ، وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي بفتح الهاء وكسر التاء . وقرأ عبد الرحمن السلمي وابن كثير ( هيت ) بفتح الهاء وضم التاء ، ومنه قول طرفة :

كيْسَ قومي بالأبعدين إذا ما *** قال داع من العشيرة هَيتُ

وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء . وقرأ عليّ وابن عباس في رواية عنه وهشام بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء . وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء . ومعنى «هيت » على جميع القراءات معنى هلمّ وتعال ، لأنها من أسماء الأفعال إلاّ في قراءة من قرأ بكسر الهاء بعدها همزة وتاء مضمومة . فإنها بمعنى : تهيأت لك . وأنكر أبو عمرو هذه القراءة . وقال أبو عبيدة : سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء فقال : باطل جعلها بمعنى تهيأت ، اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن ، هل تعرف أحداً يقول هكذا ؟ وأنكرها أيضاً الكسائي . وقال النحاس : هي جيدة عند البصريين ، لأنه يقال : هاء الرجل يهاء ويهيء هيئة ، ورجح الزجاج القراءة الأولى ، وأنشد بيت طرفة المذكور هيتا بالفتح ، ومنه قول الشاعر في عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه :

أبلغ أمير المؤمنين *** أخا العراق إذا أتيتا

أن العراق وأهله *** سلم إليك فهيت هيتا

وتكون اللام في { لَكَ } على القراءات الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان ، أي : لك . أقول هذا كما في هلمّ لك . قال النحويون : هيت جاء بالحركات الثلاث : فالفتح للخفة ، والكسر لالتقاء الساكنين ، والضم تشبيهاً بحيث ، وإذا بين باللام نحو : { هيت لك } فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له أي : لك أقول هذا وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل ، إما خبر أي : تهيأت ، وإما أمر أي : أقبل . وقال في الصحاح : يقال : هوّت به وهيت به إذا صاح به ودعاه ، ومنه قول الشاعر :

يحدو بها كل فتى هيات *** . . .

وقد روي عن ابن عباس والحسن أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها . قال أبو عبيدة : كان الكسائي يقول : هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناها تعال . قال أبو عبيدة : فسألت شيخاً عالماً من حوران فذكر أنها لغتهم . { قَالَ مَعَاذَ الله } أي : أعوذ بالله معاذاً مما دعوتني إليه ، فهو مصدر منتصب بفعل محذوف مضاف إلى اسم الله سبحانه ، وجملة { إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَايَ } تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز ، والضمير للشأن أي : إن الشأن ربي ، يعني : العزيز أي سيدي الذي رباني وأحسن مثواي حيث أمرك بقوله : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } ، فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك ؟ وقال الزجاج : إن الضمير لله سبحانه أي : إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرّمه ، وجملة { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها ، والفلاح : الظفر . والمعنى : أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم ، ومن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف .

/خ29