الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا} (57)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أولئك الذين يدعون}، يقول: أولئك الملائكة الذين تدعونهم،

{يبتغون إلى ربهم الوسيلة}، يعني: الزلفة، وهي القربة بطاعتهم،

{أيهم أقرب} إلى الله درجة... {ويرجون رحمته}، يعنى جنته...

{ويخافون عذابه}...

{إن عذاب ربك كان محذورا}، يقول: يحذره الخائفون له، فابتغوا إليه الزلفة كما تبتغي الملائكة، وخافوا أنتم عذابه كما يخافون، وارجوا أنتم رحمته كما يرجون...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابا "يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوَسِيلَةَ "يقول: يبتغي المدعوّون أربابا إلى ربهم القُربة والزّلفة، لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله.

"أيّهُمْ أقْرَبُ": أيهم بصالح عمله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة، "وَيَرْجُونَ" بأفعالهم تلك "رَحْمَتَهُ وَيخافُونَ" بخلافهم أمره "عَذَابَهُ إنّ عَذَابَ رَبّكَ" يا محمد "كانَ مَحْذورا": متقى. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في المدعويّن، فقال بعضهم: هم نفر من الجنّ... [روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه]

وقال آخرون: بل هم الملائكة... [روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه].

وقال آخرون: بل هم عزير وعيسى وأمه...

وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود الذي رويناه، عن أبي معمر عنه، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن الذين يدعوهم المشركون آلهة أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن عُزيرا لم يكن موجودا على عهد نبينا عليه الصلاة والسلام، فيبتغي إلى ربه الوسيلة وأن عيسى قد كان رُفع، وإنما يبتغي إلى ربه الوسيلة من كان موجودا حيا يعمل بطاعة الله، ويتقرّب إليه بالصالح من الأعمال. فأما من كان لا سبيل له إلى العمل، فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة. فإذ كان لا معنى لهذا القول، فلا قول في ذلك إلا قول من قال ما اخترنا فيه من التأويل، أو قول من قال: هم الملائكة، وهما قولان يحتملهما ظاهر التنزيل. وأما الوسيلة، فقد بيّنا أنها القربة والزلفة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... يعني: أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله تعالى. و {أَيُّهُم} بدل من واو يبتغون، وأي موصولة، أي: يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله، فكيف بغير الأقرب. أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون، فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، ويرجون، ويخافون، كما غيرهم من عباد الله، فكيف يزعمون أنهم آلهة؟. {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ} حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرّب ونبيّ مرسل، فضلاً عن غيرهم.

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

قال عزُّ الدين بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، في اختصاره ل«رِعَايَة المُحَاسِبِيِّ»: الخوفُ والرجاءُ: وسيلَتَانِ إِلى فعْلِ الواجباتِ والمندوباتِ، وتركِ المحرَّمات والمكروهاتِ، ولكنْ لا بدَّ من الإِكباب على استحضار ذلك واستدامته في أكثر الأوقات حتى يصير الثواب والعقاب نُصُبَ عينيه، فَيَحُثَّاه على فعْلِ الطاعات، وتركِ المخالفات، ولَنْ يحصُلَ له ذلك إِلا بتَفْريغ القَلْبِ مِنْ كل شيء سِوَى ما يفكر فيه، أو يعينه على الفِكْرِ، وقد مُثِّلَ القلْبُ المريضُ بالشهوات بالثوْبِ المتَّسِخِ الذي لا تَزُولُ أدرانه إِلا بتَكْرير غَسْله وحَتِّه وقَرْصِهِ، انتهى...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{أولئك} أي الذين أعلوا مراتبهم بالإقبال على طاعة الله، وكان المشركون يعلون مراتبهم بتألههم، وعبر عن ذلك واصفاً للمبتدأ بقوله تعالى: {الذين يدعون} أي يدعوهم الكفار ويتألهونهم؛ ثم أخبر عن المبتدأ بقوله تعالى: {يبتغون} أي يطلبون طلباً عظيماً {إلى ربهم} المحسن إليهم وحده {الوسيلة} أي المنزلة والدرجة والقربة بالأعمال الصالحة {أيهم أقرب} أي يتسابقون بالأعمال مسابقة من يطلب كل منهم أن يكون إليه أقرب ولديه أفضل {ويرجون رحمته} رغبة فيما عنده {ويخافون عذابه} تعظيماً لجنابه، المكلف منهم كالملائكة والمسيح وعزير بالفعل، وغيرهم كالأصنام بالقوة من حيث إنه قادر على أن يخلق فيها قوة الإدراك للطاعة والعذاب فتكون كذلك فالعابدون لهم أجدر بأن يعبدوه ويبتغوا إليه الوسيلة... ثم علل خوفهم بأمر عام فقال تعالى: {إن عذاب ربك} أي المحسن إليك برفع انتقام الاستئصال منه عن أمتك {كان} أي كوناً ملازماً له {محذوراً} أي جديراً بأن يحذر لكل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم، لما شوهد من إهلاكه للقرون ومن صنائعه العظيمة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويقرر لهم أن من يدعونهم آلهة من الملائكة أو الجن أو الإنس.. إن هم إلا خلق من خلق الله، يحاولون أن يجدوا طريقهم إلى الله ويتسابقون إلى رضاه، ويخافون عذابه الذي يحذره من يعلم حقيقته ويخشاه:

(أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه. إن عذاب ربك كان محذورا)..

وقد كان بعضهم يدعو عزيرا ابن الله ويعبده، وبعضهم يدعو عيسى ابن الله ويعبده. وبعضهم يدعو الملائكة بنات الله ويعبدهم، وبعضهم يدعو غير هؤلاء.. فالله يقول لهم جميعا: إن هؤلاء الذين تدعونهم، أقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة، ويتقرب إليه بالعبادة، ويرجو رحمته، ويخشى عذابه -وعذاب الله شديد يحذر ويخاف- فما أجدركم أن تتوجهوا إلى الله، كما يتوجه إليه من تدعونهم آلهة من دونه وهم عباد لله، يبتغون رضاه.

وهكذا يبدأ الدرس ويختم ببيان تهافت عقائد الشرك في كل صورها. وتفرد الله سبحانه بالألوهية والعبادة والاتجاه.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أولئك الذين إنْ دعوا يُستجَبْ لهم ويكشف عنهم الضر، وليسوا كالذين تدعونهم فلا يملكون كشف الضر عنكم بأنفسهم ولا بشفاعتهم عند الله كما رأيتم من أنهم لم يغنوا عنكم من الضر كشفاً ولا صرفاً... و {أيهم أقرب} يجوز أن يكون بدلاً من ضمير {يبتغون} بدل بعض، وتكون (أي) موصولة. والمعنى: الذي هو أقرب من رضى الله يبتغي زيادة الوسيلة إليه، أي يزداد عملاً للازدياد من رضى الله عنه واصطفائه. ويجوز أن يكون بدلاً من جملة {يبتغون إلى ربهم الوسيلة}، و (أي) استفهامية، أي يبتغون معرفة جواب: أيهم أقرب عند الله. وأقرب: اسم تفضيل، ومتعلقه محذوف دل عليه السياق. والتقدير: أيهم أقرب إلى ربهم...

وذكر خوف العذاب بعد رجاء الرحمة للإشارة إلى أنهم في موقف الأدب مع ربهم فلا يزيدهم القرب من رضاه إلا إجلالاً له وخوفاً من غضبه. وهو تعريض بالمشركين الذين رَكبوا رؤوسهم وتوغلوا في الغرور فزعموا أن شركاءهم شفعاؤهم عند الله. وجملة {إن عذاب ربك كان محذوراً} تذييل. ومعنى {كان محذورا} أن حقيقته تقتضي حذر الموفقين إذ هو جدير بذلك...