البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا} (57)

و { أولئك } مبتدأ و { الذين } صفته ، والخبر { يبتغون } .

و { الوسيلة } القرب إلى الله تعالى ، والظاهر أن { أولئك } إشارة إلى المعبودين والواو في { يدعون } للعابدين ، والعائد على { الذين } منصوب محذوف أي يدعونهم .

وقال ابن فورك : الإشارة بقوله بأولئك إلى النبيين الذين تقدّم ذكرهم ، والضمير المرفوع في { يدعون } و { يبتغون } عائد عليهم ، والمعنى يدعون الناس إلى دين الله ، والمعنى على هذا أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلاّ الله ولا يبتغون الوسيلة إلاّ إليه ، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير الله .

وقرأ الجمهور : { إلى ربهم } بضمير الجمع الغائب .

وقرأ ابن مسعود إلى ربك بالكاف خطاباً للرسول ، واختلفوا في إعراب { أيهم أقرب } وتقديره .

فقال الحوفي : { أيهم أقرب } ابتداء وخبر ، والمعنى ينظرون { أيهم أقرب } فيتوسلون به ويجوز أن يكون { أيهم أقرب } بدلاً من الواو في { يبتغون } انتهى .

ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق ، و { أيهم أقرب } في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدّى بفي ، وإن كانت بصرية تعدّت بإلى ، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله { فلينظر أيها أزكى طعاماً } وفي إضمار الفعل المعلق نظر ، والوجه الثاني قاله الزمخشري قال : وتكون أي موصولة ، أي يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب انتهى .

فعلى الوجه يكون { أقرب } خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل { أيهم } أن يكون معرباً وهو الوجه ، وأن يكون مبنياً لوجود مسوغ البناء .

قال الزمخشري : أو ضمن { يبتغون } { الوسيلة } معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله ، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ، فيكون قد ضمن { يبتغون } معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق ، وتكون الجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن حرص يتعدى بعلى ، كقوله :

{ إن تحرص على هداهم } وقال ابن عطية : و { أيهم } مبتدأ و { أقرب } خبره ، والتقدير نظرهم وودكهم { أيهم أقرب } وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها ، أي يتبارون في طلب القرب .

فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأ فإن جعلت { أيهم أقرب } في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر ، وإن جعلت { أيهم أقرب } هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو { أيهم أقرب } وإن جعلت التقدير نظرهم في { أيهم أقرب } أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائناً وحاصلاً ليس مما تعلق .

وقال أبو البقاء : { أيهم } مبتدأ و { أقرب } خبره ، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون ، ويجوز أن يكون { أيهم } بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في { يدعون } والتقدير الذي هو أقرب انتهى .

ففي الوجه الأولى علق { يدعون } وهو ليس فعلاً قلبياً ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية ، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } كغيرهم من عباد الله ، فكيف يزعمون أنهم آلهة { إن عذاب ربك كان محذوراً } يحذره كل أحد .