الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا} (57)

قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } : " أولئك " مبتدأٌ ، وفي خبره وجهان ، أظهرُهما : أنه الجملةُ مِنْ " يبتغون " ويكون الموصولُ نعتاً أو بياناً أو بدلاً ، والمرادُ باسم الإِشارة الأنبياءُ الذين عُبِدوا مِنْ دون الله . والمرادُ بالواوِ العبَّادُ لهم ، ويكون العائدُ على " الذين " محذوفاً ، والمعنى : أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُونهم المشركون لكَشْفِ ضُرِّهم - أو يَدْعُونهم آلهةً ، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يَبْتَغون .

ويجوز أن يكونَ المرادُ بالواوِ ما أُريد بأولئك ، أي : أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُون ربَّهم أو الناسَ إلى الهدى يَبْتغون ، فمفعولُ " يَدْعُون " محذوف .

والثاني : أن الخبرَ نفسُ الموصولِ ، و " يَبْتَغُون " على هذا حالٌ مِنْ فاعل " يَدْعُون " أو بدلٌ منه . وقرأ العامَّةُ " يَدْعُون " بالغيبِ ، وقد تقدَّم الخلافُ في الواو : هل تعودُ على الأنبياء أو على عابِدِيْهم . وزيد بن علي بالغَيْبة أيضاً ، إلا أنه بناه للمفعول . وقتادةُ وابنُ مسعودٍ بتاء الخطاب . وهاتان القراءتان تقويَّان أن الواوَ للمشركين لا للأنبياءِ في قراءة العامَّة .

قوله : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في " أيُّ " هذه وجهان ، أحدُهما : أنها استفهاميةٌ .

والثاني : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، وإنما كَثُرَ كلامُ المُعْرِبين فيها من حيث التقديرُ . فقال الزمخشري : " وأيُّهم بدلٌ مِنْ واو " يَبْتغون " و " أيُّ " موصولةٌ ، أي : يبتغي مَنْ هو أقربُ منهم وأَزْلَفُ ، أو ضُمِّن [ يَبْتَغُون ] الوسيلةَ معنَى يَحْرِصُون ، فكأنه قيل : يَحْرِصُون أيُّهم يكون أقربَ " . قلت : فَجَعَلَها في الوجهِ الأولِ موصولةً ، وصلتُها جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر ، حُذِف المبتدأ وهو عائدُها ، و " أَقْرَبُ " خبرُ " هو " واحتملت " أيُّ " حينئذٍ أن تكونَ مبنيةً ، وهو الأكثرُ فيها ، وأن تكونَ مُعْرَبةً ، ولهذا موضعٌ هو أليقُ به في مريم . وفي الثاني جَعَلَها استفهاميةً بدليل أنه ضَمَّن الابتغاءَ معنى شيء يُعَلَّقُ وهو " يَحْرُصون " ، فيكون " أيُّهم " مبتدأً و " أقربُ " خبرَه ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض ؛ لأنَّ " يَحْرِص " يتعدَّى ب " على " قال تعالى : { إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ } [ النحل : 37 ] { أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] .

وقال أبو البقاء : " أيُّهم " مبتدأ ، و " أقربُ " خبرُه وهو استفهامٌ في موضع نصب ب " يدْعُونَ " ، ويجوز أن يكونَ " أيُّهم " بمعنى الذي ، وهو بدلٌ مِنَ الضميرِ في " يَدْعُوْن " .

قال الشيخ : " علًّق " يَدْعُون " وهو ليس فعلاً قلبياً ، وفي الثاني فَصَلَ بين الصلةِ ومعمولِها بالجملةِ الحاليةِ ، ولا يَضُرُّ ذلك لأنها معمولةٌ للصِّلة " . قلت : أمَّا كونُ " يَدْعُون " لا يُعَلِّق هو مذهبَ الجمهور .

وقال يونس : يجوز تعليقُ الأفعالِ مطلقاً ، القلبيةِ وغيرِها . وأمَّا قولُه " فَصَل بالجملة الحالية " يعني بها " يَبْتَغُون " فَصَل بها بين " يَدْعون " الذي هو صلةُ " الذين " وبين معمولِه وهو { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } لأنه مُعَلَّقٌ عنه كما عَرَفْتَه ، إلا أنَّ الشيخَ لم يتقدَّم في كلامِه أعرابُ " يبتغون " حالاً ، بل لم يُعْرِبْها إلا خبراً للموصول ، وهذا قريب .

وجعل أبو البقاء أيَّاً الموصولة بدلاً من واو " يَدْعُون " ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك ، بل كلُّهم يجعلونها مِنْ واو " يَبْتَغون " وهو الظاهر .

وقال الحوفي : " أَيُّهُمْ أَقْرَبُ " ابتداءٌ وخبر ، والمعنى : ينظرون أيُّهم أقربُ فيتوسَّلون به ، ويجوز أن يكونَ " أَيُّهُمْ أَقْرَبُ " / بدلاً من واو " يَبْتغون " . قلت : فقد أضمر فعلاً معلَّقاً وهو " ينظرون " ، فإن كان مِنْ نَظَرِ البصَرِ تَعَدَّى ب " إلى " ، وإن كان مِنْ نظَرِ الفِكْرِ تعدَّى ب " في " ، فعلى التقديرين الجملةُ الاستفهامية في موضعِ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ ، وهذا إضمارُ ما لا حاجةَ إليه .

وقال ابن عطية : " وأيُّهم ابتداءٌ ، و " أقربُ " خبرُه ، والتقدير : نَظَرُهم ووَكْدُهم أيُّهم أقربُ ، ومنه قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه : " فبات الناس يَدُوكون أيُّهم يُعطاها " ، أي : يتبارَوْن في القُرْبِ " . قال الشيخ : " فَجَعَل المحذوفَ " نَظَرُهم ووَكْدُهم " وهذا مبتدأ ، فإن جعلْتَ { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في موضعِ نصبٍ ب " نَظَرُهم " بقي المبتدأ بلا خبر ، فَيَحْتاج إلى إضمار خبر ، وإن جعلت { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [ هو ] الخبر لم يَصِحَّ ؛ لأنَّ نظرَهم ليس هو أيهم أقرب ، وإنْ جَعَلْتَ التقدير : نَظَرُهم في أيهم أقربُ ، أي : كائنٌ أو حاصلٌ ، لم يَصِحَّ ذلك ؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يُعَلِّق " .

قلت : فقد تحصَّل في الآيةِ الكريمةِ ستةُ أوجهٍ ، أربعةٌ حالَ جَعْلِ " أيّ " استفهاماً . الأولُ أنها مُعَلِّقةٌ للوسيلة كما قرَّره الزمخشري . الثاني : أنها مُعَلَّقَةٌ ل " يَدْعُون " كما قاله أبو البقاء . الثالث : أنها مُعَلِّقَةٌ ل " يَنْظرون " مقدَّراً ، كما قاله الحوفيُّ . الرابع : أنها مُعَلَّقةٌ ل " نَظَرُهُمْ " كما قدَّره ابن عطية . واثنان حالَ جَعْلِها موصولةً ، الأول : البدلُ مِنْ واو " يَدْعُون " كما قاله أبو البقاء . الثاني : أنها بدلٌ مِنْ واو " يَبْتَغون " كما قاله الجمهور .