تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء}: يعني لا حرج على الرجل أن يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدتها: إنك لتعجبينني، وما أجاوزك إلى غيرك، فهذا التعريض.
{أو أكننتم في أنفسكم}: فلا جناح عليكم أن تسروا في قلوبكم تزويجهن في العدة. {علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا}: يعني الجماع في العدة. ثم استثنى، فقال: {إلا أن تقولوا قولا معروفا}: عدة حسنة، فتقول: وهي في العدة، إنه حبيب إلى أن أكرمك وأن آتى ما أحببت ولا أجاوزك إلى غيرك.
{ولا تعزموا عقدة النكاح}: ولا تحققوا عقدة النكاح، يعني لا تواعدوهن في العدة. {حتى يبلغ الكتاب أجله}: حتى تنقضي عدتها.
ثم خوفهم، فقال سبحانه: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم}: ما في قلوبكم من أمورهن. {فاحذروه}: فاحذروا أن ترتكبوا في العدة ما لا يحل.
{واعلموا أن الله غفور}: ذا تجاوز لكم. {حليم}: لا يعجل بالعقوبة...
كتاب الله يدل على أن التعريض في العدة جائز لما وقع عليه اسم التعريض، إلا ما نهى الله عز وجل عنه من السِّرِّ. والتعريض كثير واسع جائز كله، وهو خلاف التصريح، وهو ما يعرض به الرجل للمرأة مما يدلها على أنه أراد به خطبتها بغير تصريح. والسِّرُّ الذي نهى الله عنه ـ والله أعلم ـ يجمع بين أمرين: أنه تصريح: والتصريح خلاف التعريض، وتصريح بجماع وهذا كأقبح التصريح.
فإن قال قائل: ما دلَّ على أن السِّرَّ الجماعُ؟ قيل: فالقرآن كالدليل عليه إذ أباح التعريض، والتعريض عند أهل العلم جائز سرا وعلانية، فإذا كان هذا فلا يجوز أن يتوهم أن السر سر التعريض، ولا بد من معنى غيره، وذلك المعنى الجماع... 74-... قال الله عز وجل: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اِلنِّسَاء أَوَ اَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} الآية. قال الشافعي: وبلوغ الكتاب أجله ـ والله تعالى أعلم ـ انقضاء العدة... وإذ أذن الله عز وجل في التعريض بالخطبة في العدة، فبين أنه حظر التصريح فيها، وخالف بين حكم التعريض والتصريح، وبذلك قلنا: لا نجعل التعريض أبدا يقوم مقام التصريح في شيء من الحكم إلا أن يريد المعرِّضُ التصريح، وجعلناه فيما يشبه الطلاق من النية وغيره. فقلنا: لا يكون طلاقا إلا بإرادته. وقلنا: لا نَحُدُّ أحدا في تعريض إلا بإرادة التصريح بالقذف...
قول الله تبارك وتعالى: {وَلَكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} يعني ـ والله تعالى أعلم ـ جماعا {اِلا أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا}: قولا حسنا لا فحش فيه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: ولا جناح عليكم أيها الرجال فيما عرّضتم به من خطبة النساء،للنساء المعتدات من وفاة أزواجهن في عددهن، ولم تصرّحوا بعقد نكاح. والتعريض الذي أبيح في ذلك، هو ما [روي] عن ابن عباس قال: التعريض أن يقول: إني أريد التزويج، وإني لأحبّ امرأة من أمرها أمرها، يعرّض لها بالقول بالمعروف.
...ولوددت أني وجدت امرأة صالحة، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها... وتقول هي: قد أسمع ما تقول. ولا تعده شيئا، ولا تقول: لعل ذاك...
واختلف أهل العربية في معنى الخطبة؛ فقال بعضهم: الخطبة: الذكر، والخطبة: التشهد. وكأن قائل هذا القول تأول الكلام: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهم، وقد زعم صاحب هذا القول أنه قال: «لا تواعدوهنّ سرّا»، لأنه لما قال: «لا جناح عليكم»، كأنه قال: اذكروهن، ولكن لا تواعدوهنّ سرّا.
وقال آخرون منهم: الخِطْبَةُ أخطِب خِطْبَة وخَطْبا، قال: وقول الله تعالى ذكره:"قالَ فَمَا خَطْبُكَ يا سامِرِيّ" يقال إنه من هذا. قال: وأما الخُطبة، فهو المخطوب من قولهم: خطب على المنبر واختطب.
والخطبة عندي هي «الفِعْلة» من قول القائل: خطبت فلانة، كالجلسة من قوله: جلس، أو القعدة من قوله: قعد.
ومعنى قولهم: خطب فلان فلانة سألها خَطْبَهُ إليها في نفسها، وذلك حاجته، من قولهم: ما خطبك؟ بمعنى: ما حاجتك وما أمرك؟.
وأما التعريض فهو ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع الفَهِمُ ما يفهم بصريحه.
"أوْ أكْنَنْتُمْ فِي أنْفُسِكُمْ": أو أخفيتم في أنفسكم، فأسررتموه من خطبتهن وعزم نكاحهن وهن في عددهن، فلا جناح عليكم أيضا في ذلك إذا لم تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله. يقال منه: أكنّ فلان هذا الأمر في نفسه: إذا ستره، وإنما يقال: كننته في البيت أو في الأرض: إذا خبأته فيه.
عن مجاهد: "أوْ أكْنَنْتُمْ فِي أنْفُسِكُمْ "قال: الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه لا يبديه لها، هذا كله حِلٌ معروف.
وفي إباحة الله تعالى ذكره ما أباح من التعريض بنكاح المعتدة لها في حال عدتها وحظره التصريح، ما أبان عن افتراق حكم التعريض في كل معاني الكلام وحكم التصريح منه.
وإذا كان ذلك كذلك تبين أن التعريض بالقذف غير التصريح به، وأن الحدّ بالتعريض بالقذف لو كان واجبا وجوبه بالتصريح به، لوجب من الجناح بالتعريض بالخطبة في العدة نظير الذي يجب بعزم عقدة النكاح فيها، وفي تفريق الله تعالى ذكره بين حكميها في ذلك الدلالة الواضحة على افتراق أحكام ذلك في القذف.
"عَلِم اللّهُ أنّكُمْ سَتَذْكُرُوَنَهُنّ": علم الله أنكم ستذكرون المعتدات في عددهن بالخطبة في أنفسكم وبألسنتكم... عن الحسن: "عَلِمَ اللّهُ أنّكُمْ سَتَذْكُرُوَنهُنّ": قال: الخطبة.
"وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا":
اختلف أهل التأويل في معنى السرّ الذي نهى الله تعالى عباده عن مواعدة المعتدات به، فقال بعضهم: هو الزنا... عن ابن عباس: "لا تُواعِدُوهُنّ سِرّا" قال: فذلك السرّ: الزّنية، كان الرجل يدخل من أجل الزنية وهو يعرّض بالنكاح، فنهى الله عن ذلك، إلا من قال معروفا... عن الربيع قوله: "وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا": للفحش، والخَضْع من القول.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تأخذوا ميثاقهنّ وعهودهنّ في عِددهن أن لا ينكحن غيركم... عن ابن عباس: "لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا" يقول: لا تقل لها إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوّجي غيري، ونحو هذا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يقول لها الرجل: لا تسبقيني بنفسك، فإني ناكحك. هذا لا يحلّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تنكحوهنّ في عدتهنّ سرّا، ثم تمسكها حتى إذا حلت أظهرتَ ذلك وأدخلتها.
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، تأويل من قال: السرّ في هذا الموضع: الزنا؛ وذلك أن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة سرّا، لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطلع عليه، فيسمى لخفائه سرّا.
وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه سرّ، ويقال: هو في سرّ قومه، يعني في خيارهم وشرفهم. فلما كان السرّ إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه الثلاثة، وكان معلوما أن أحدهن غير معنّي به قوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا} وهو السرّ الذي هو معنى الخيار والشرف، فلم يبق إلا الوجهان الاَخران وهو السرّ الذي بمعنى ما أخفته نفس المواعدين المتواعدين، والسرّ الذي بمعنى الغشيان والجماع. فلما لم يبق غيرهما، وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير معنّي به صحّ أن الاَخر هو المعنيّ به.
فإن قال قائل: فما الدلالة على أن مواعدة القول سرّا غير معنّي به على ما قال من قال: إن معنى ذلك: أخذ الرجل ميثاق المرأة أن لا تنكح غيره، أو على ما قال من قال: قول الرجل لها: لا تسبقيني بنفسك؟ قيل: لأن السرّ إذا كان بالمعنى الذي تأوّله قائلو ذلك، فلن يخلو ذلك السرّ من أن يكون هو مواعدة الرجل المرأة ومسألته إياها أن لا تنكح غيره، أو يكون هو النكاح الذي سألها أن تجيبه إليه بعد انقضاء عدتها وبعد عقده له دون الناس غيره. فإن كان السرّ الذي نهى الله الرجل أن يواعد المعتدات هو أخذ العهد عليهن أن لا ينكحن غيره، فقد بطل أن يكون السرّ معناه ما أخفى من الأمور في النفوس، أو نطق به فلم يطلع عليه، وصارت العلانية من الأمر سرّا، وذلك خلاف المعقول في لغة من نزل القرآن بلسانه، إلا أن يقول قائل هذه المقالة: إنما نهى الله الرجال عن مواعدتهنّ ذلك سرّا بينهم وبينهن، لا أن نفس الكلام بذلك وإن كان قد أعلن سر. فيقال له: إن قال ذلك فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح والخطبة صريحا علانية، إذ كان المنهيّ عنه من المواعدة إنما هو ما كان منها سرّا. فإن قال إن ذلك كذلك خرج من قول جميع الأمة على أن ذلك ليس من قيل أحد ممن تأوّل الآية أن السرّ ها هنا بمعنى المعاهدة أن لا تنكح غير المعاهد. وإن قال: ذلك غير جائز. قيل له: فقد بطل أن يكون معنى ذلك: إسرار الرجل إلى المرأة بالمواعدة، لأن معنى ذلك لو كان كذلك لم يحرم عليه مواعدتها مجاهرة وعلانية، وفي كون ذلك عليه محرّما سرّا وعلانية ما أبان أن معنى السرّ في هذا الموضع غير معنى إسرار الرجل إلى المرأة بالمعاهدة، أن لا تنكح غيره إذا انقضت عدتها أو يكون إذا بطل هذا الوجه معنى ذلك: الخطبة والنكاح الذي وعدت المرأة الرجل أن لا تعدوه إلى غيره، فذلك إذا كان، فإنما يكون بوليّ وشهود علانية غير سرّ، وكيف يجوز أن يسمى سرّا وهو علانية لا يجوز إسراره؟ وفي بطول هذه الأوجه أن تكون تأويلاً لقوله: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا بما عليه دللنا من الأدلة وضوح صحة تأويل ذلك أنه بمعنى الغشيان والجماع. وإذا كان ذلك صحيحا، فتأويل الآية: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما عرضتم به للمعتدات من وفاة أزواجهن من خطبة النساء وذلك حاجتكم إليهن، فلم تسرحوا لهن بالنكاح والحاجة إليهن إذا أكننتم في أنفسكم، فأسررتم حاجتكم إليهن وخطبتكن إياهن في أنفسكم ما دمن في عددهن، علم الله أنكم ستذكرون خطبتهن وهن في عددهن. فأباح لكم التعريض بذلك لهنّ، وأسقط الحرج عما أضمرته نفوسكم حلما منه، ولكن حرم عليكم أن تواعدوهنّ جماعا في عددهن، بأن يقول أحدكم لإحداهنّ في عدتها: قد تزوّجتك في نفسي، وإنما أنتظر انقضاء عدتك، فيسألها بذلك القول إمكانه من نفسها الجماع والمباضعة، فحرّم الله تعالى ذكره ذلك.
"إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفا": فاستثنى القول المعروف مما نهى عنه، من مواعدة الرجل المرأة السرّ، وهو من غير جنسه ولكنه من الاستثناء الذي قد ذكرت قبل أنه يأتي بمعنى خلاف الذي قبله في الصفة خاصة، وتكون «إلا» فيه بمعنى «لكن»، فقوله: "إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفا" منه، ومعناه: ولكن قولوا قولاً معروفا. فأباح الله تعالى ذكره أن يقول لها المعروف من القول في عدّتها، وذلك هو ما أذن له بقوله: "وَلاَ جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ". "وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكاح حتى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ": ولا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة، فتوجبوها بينكم وبينهن، وتعقدوها قبل انقضاء العدة "حَتّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ": يبلغن أجل الكتاب الذي بينه الله تعالى ذكره بقوله: "وَالّذِينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا"؛ فجعل بلوغ الأجل للكتاب. والمعنى: للمتناكحين أن لا ينكح الرجل المرأة المعتدة فيعزم عقدة النكاح عليها حتى تنقضي عدتها، فيبلغ الأجل الذي أجله الله في كتابه لانقضائها. "وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أنْفُسِكُمْ فاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ": واعلموا أيها الناس أن الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم. فاحْذَرُوهُ يقول: فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا مما نهاكم عنه من عزم عقدة نكاحهنّ أو مواعدتهنّ السرّ في عددهن، وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هنّ معتدات، وفي غير ذلك. "وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ غَفُورٌ": يعني أنه ذو ستر لذنوب عباده وتغطية عليها فيما تكنّه نفوس الرجال من خطبة المعتدات وذكرهم إياهن في حال عددهن، وفي غير ذلك من خطاياهم. "حَلِيمٌ": ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خبطة النساء أو أكننتم في أنفسكم}؛ قيل: التعريض هو أن يري من نفسه الرغبة في ما يكني به من الكلام على ما ذكر في الخبر: أن فاطمة بنت قيس لما استشارت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (إذا انقضت عدتك فآذنيني فاستأذنته في رجلين كانا خطباها، فقال لها: أما فلان فإنه لا يرفع العصا عن عاتقك، وأما فلان فصعلوك، لا شيء له، فعليك بأسامة بن زيد) [بنحوه: ابن ماجه 1869]، فكان قوله [عليه السلام]: (فآذنيني) كناية خطاب إلى [أن أشار عليها بأسامة...
وفي الآية دلالة أن لا بأس للمتوفى عنها زوجها الخروج بالنهار،] وعلى ذلك جاءت الآثار؛ وري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن لهن بالخروج بالنهار والنهي عن البيتوتة في غير منزلهن، ولأن المتوفى عنها زوجها مؤنتها على نفسها، فلا بد لها من الخروج. وأما المطلقة فإن مؤنتها على زوجها، والزوج هو الذي يكفي مؤنتها، ويزيح علتها، لذلك افترقا، والله أعلم...
ثم التعريض لا يجوز في المطلقة لوجهين:
أحدهما: ما ذكرنا: ألا يباح لها الخروج من منزلها ليلا ونهارا، والمتوفى عنها زوجها يباح لها الخروج، وإنما ذكر الله، سبحانه، التعريض في المتوفى عنها زوجها، لم يذكرها في المطلقة.
والثاني: أن في تعريض المطلقة اكتساب عداوة وبغض في ما بينها وبين زوجها، عند العدة... دليله أنه إذا لم يدخل بها لم تلزمها العدة، وأما المتوفى عنها زوجها فقد لزمتها العدة، وإن لم يدخل بها، لذلك يجوز التعريض في المتوفى عنها زوجها... قال الشيخ، رحمه الله، ولأن زوجها في الطلاق متى يعلم ما حدث ينشب بينهما الضغن والمكروه في الحال، وليس ذلك في الوفاة...
{إلا أن تقولوا قولا معروفا}: يقول لها قولا لينا حسنا، ولا يقول لها قولا يحملها على الزنى، أو على ما يظهر من نفسها الرغبة فيه على ما ذكر في الآية: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} [الأحزاب: 32]، وأن يعيد لها عدة حسنة، أو أن يبرها ويحسن إليها لترغيب فيه، ولا يقول لها ما لا يحل، ولا جوز، والله أعلم...
قوله: {ولا تعزموا عقدة النكاح} حمل على التحريم، وإن احتمل، وهو بهذا المخرج غير التحريم، لاتفاق الأمة على صرف المراد إليه، ولقوله: {حتى يبلغ الكتاب أجله} أي ما كتب عليها من التربص، ولما كان النهي عن ذلك بما لزمها العدة للزواج الأول، فهي باقية بها على ما سبق من النكاح المحرم لها على غيره؛ فلذلك بقيت الحرمة؛ ولهذا جاز لمن له العدة للزوج الأول، فهي باقية بها، إذ لا يجوز أن يمنع حقه، والله أعلم...
{واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه}؛ وهو حرف وعيد؛ أي يعلم ما تضمرون في القلوب، وتظهرون باللسان من التعريض {فاحذروه} ولا تخالفوا أمره ونهيه.
{واعلموا أن الله غفور رحيم} فيه إطماع المغفرة وإمهال العقوبة من ارتكاب النهي، وخالف أمره، والله أعلم.
{واعلموا} حذرهم علمه بما في أنفسهم ليكونوا مراقبين له في ما أسروا، وليعلموا أنهم مؤاخذون بما أضمروا من المعاصي والخلاف له، وأن الذي لا يؤاخذ به العبد هو الخطر بالبال لا بالعزم عليه والاعتقاد.
ثم أخبر أنه {غفور} ليعلموا أن استتار ذلك مما غفره، وأنهم استوجبوا بفعلهم الخزي. لكن الله بفضله يستره عليهم ليشكروا عظيم نعمه، أو لئلا ييأسوا من رحمته، فيستغفروه. وذكر {حليم} لئلا يغتروا بما لم يؤاخذوا بجزاء ما أضمروا في ذلك الوقت، فيظنون الغفلة عنهم كقوله عز وجلا: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} [إبراهيم: 42]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أبيح من ذلك ما كان فيه استجلاب للمودة، وتأسيس لحال الوصلة. وحُرِّمَ منه ما فيه ارتكاب المحظورات من إلمام بذنب أو عِدةٌ بِجُرمٍ.
التعريض في اللغة ضد التصريح، ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما حد سبحانه وتعالى هذه المدة لمنعهن عن الرجال بين أن التعريض بالخطبة ليس داخلاً في المنع فقال: {ولا جناح عليكم} أي إثم بميل {فيما عرضتم به} أي قلتموه وأنتم تقصدون ما هو بعيد عنه كأنه في جانب وهو في جانب آخر لا يتأدى إليه إلا بدورة [كقوله لها] أنا عازم على أن أتزوج، وعسى أن ييسر الله لي قرينة صالحة.قال الحرالي: من التعريض وهو تفعيل من العرض والعرض وهو إلقاء القول عرضاً أي ناحية على غير قصد إليه وصمد نحوه -...
والفرق بينه وبين الكناية أنه كلام ظاهر في معنى يقصد به غير معناه الظاهر فلا يفهم المراد إلا بالقرائن، كقول المحتاج: جئت لأسلم عليك وأنظر وجهك الكريم، ويسمى التلويح أيضاً، والكناية ذكر اللازم وإرادة الملزوم، وقد أفهم نوط الحل بالتعريض تحريم التصريح المقابل له وللكناية، والصريح اسم لما هو ظاهر المراد عند السامع بحيث يسبق إلى فهمه المراد ولا يسبق غيره عند الإطلاق.
{من خطبة} وهي الخطاب في قصد التزوج. وقال الحرالي: هي هيئة الحال فيما بين الخاطب والمخطوبة التي النطق عنها هو الخطبة بالضم {النساء} المتوفى عنهن أزواجهن ومن أشبههن في طلاق بائن بالثلاث أو غيرها.
ولما أحل له التعريض وكان قد يعزم على التصريح إذا حل له ذلك نفى عنه الحرج فيه بقوله {أو أكننتم} أي أضمرتم {في أنفسكم} من تصريح وغيره سواء [أكان] من شهوات النفس [أم] لا. قال الحرالي: من الكن -بالفتح- وهو الذي من معناه الكن -بالكسر- وهو ما وارى بحيث لا يوصل به إلى شيء.
ولما كان لله سبحانه وتعالى بهذه الأمة عناية عظيمة في التخفيف عنها أعلمها بذلك بقوله على سبيل التعليل: {علم الله} أي بما له من صفات الكمال {أنكم ستذكرونهن} أي في العدة فأذن لكم في ذلك على ما حد لكم...
ولما كان التقدير: فاذكروهن، استثنى منه قوله: {ولكن لا تواعدوهن} أي في ذكركم إياهن {سراً} ولما كان السر يطلق على ما أسر بالفعل وما هو أهل أن يسر به وإن جهر بين أن المراد الثاني وهو السر بالقوة فقال: {إلا أن تقولوا} أي في الذكر لهن {قولاً معروفاً} لا يستحيي منه عند أحد من الناس، فآل الأمر إلى أن المعنى لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيي من ذكره فيسر وهو التعريض؛ فنصت هذه الآية على تحريم التصريح بعد إفهام الآية الأولى لذلك اهتماماً به لما للنفس من الداعية إليه.
ولما كانت عدة الوفاة طويلة فكان حبس النفس فيها عن النكاح شديداً وكانت إباحة التعريض قريبة من الرتع حول الحمى وكان من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه خصها باتباعها النهي عن العقد قبل الانقضاء حملاً على التحري ومنعاً من التجري فقال: {ولا تعزموا} أي تبتّوا أي تفعلوا فعلاً بتاً مقطوعاً به غير متردد فيه {عقدة النكاح} أي النكاح الذي يصير معقوداً للمعتدة عدة هي فيها بائن فضمن العزم البتة ولذلك أسقط "على "وأوقعه على العقدة التي هي من آثاره ولا تتحقق بدونه فكأنه قال: ولا تعزموا على النكاح باقين عقدته، وهو أبلغ مما لو قيل: ولا تعقدوا النكاح، فإن النهي عن العزم الذي هو سبب العقد نهي عن العقد بطريق الأولى.
قال الحرالي: والعقدة توثيق جمع الطرفين المفترقين بحيث يشق حلها وهو معنى دون الكتب الذي هو وصلة وخرز {حتى يبلغ الكتاب} أي الذي تقدم فيما أنزلت عليكم منه بيان عدة من زالت عصمتها من رجل بوفاة أو طلاق، أو ما كتب وفرض من العدة {أجله} أي أخر مدته التي ضربها للعدة.
ولما أباح سبحانه وتعالى التعريض وحظر عزم العقدة وغلظ الأمر بتعليقه بالكتاب و بقي بين الطرفين أمور كانت الشهوة في مثلها غالبة والهوى مميلاً غلظ سبحانه وتعالى الزواجر لتقاوم تلك الدواعي فتولى تلك الأمور تهديد قوله تعالى: {واعلموا} أي أيها الراغبون في شيء من ذلك {أن الله} وله جميع الكمال {يعلم ما في أنفسكم} كله {فاحذروه} و لا تعزموا على شر فإنه يلزم من إحاطة العلم إحاطة القدرة.
ولما هددهم بعلمه وكان ذلك النهاية في التهديد وكان كل أحد يعلم من نفسه في النقائص ما يجل عن الوصف أخبرهم بما أوجب الإمهال على ذلك من منه بغفرانه وحلمه حثاً على التوبة وإقامة بين الرجاء والهيبة فقال: {واعلموا أن الله} أي كما اقتضى جلاله العقوبة اقتضى جماله العفو فهو لذلك {غفور} أي ستور لذنوب الخطائين إن تابوا {حليم *} لا يعاجل أحد العقوبة فبادروا بالتوبة رجاء غفرانه ولا تغتروا بإمهاله فإن غضب الحليم لكونه بعد طول الأناة لا يطاق، ويجوز أن يكون التقدير: ولا تصرحوا للنساء المعتدات بعقدة النكاح في عدة من العدد.
والسر في تفاوتها أن عدة الوفاة طولت مراعاة للورثة إلى حد هو أقصى دال على براءة الرحم، لأن الماء يكون فيه أربعين يوماً نطفة ومثلها علقة ومثلها مضغة ثم ينفخ فيه الروح فتلك أربعة أشهر، وقد تنقص الأشهر أربعة أيام فزيدت عليها وجبرت بما أتم أقرب العقود إليها؛ وفي صحيح مسلم رضي الله تعالى عنه تقدير المدة الأولى "باثنين وأربعين يوماً" وفي رواية: "خمس وأربعين" وفي رواية: "بضع وأربعين" فإذا حمل البضع على ست وزيد ما قد تنقصه الأشهر صارت أربعة أشهر وعشراً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولما كان من شأن الراغبين في التزوج بمن يتوفى زوجها المسارعة إلى خطبتها بين الله للمؤمنين ما يتعلق بذلك من الأحكام والآداب اللائقة بهم وبكرامة النساء في مدة العدة فقال: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم}... فالمراد بالنساء المعتدات لوفاة أزواجهن، قالوا ومثلهن المطلقات طلاقا بائنا، وأما الرجعيات فلا يجوز التعريض لهن لأنهن لم يخرجن عن عصمة بعولتهن بالمرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا شأن المرأة.. ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة؛ فيوجههم توجيها قائما على أدب النفس، وأدب الاجتماع، ورعاية المشاعر والعواطف، مع رعاية الحاجات والمصالح: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم}.. إن المرأة في عدتها ما تزال معلقة بذكرى لم تمت، وبمشاعر أسرة الميت، ومرتبطة كذلك بما قد يكون في رحمها من حمل لم يتبين، أو حمل تبين والعدة معلقة بوضعه.. وكل هذه الاعتبارات تمنع الحديث عن حياة زوجية جديدة. لأن هذا الحديث لم يحن موعده، ولأنه يجرح مشاعر، ويخدش ذكريات. ومع رعاية هذه الاعتبارات فقد أبيح التعريض -لا التصريح- بخطبة النساء. أبيحت الإشارة البعيدة التي تلمح منها المرأة أن هذا الرجل يريدها زوجة بعد انقضاء عدتها. وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن التعريض مثل أن يقول: إني أريد التزويج. وإن النساء لمن حاجتي. ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة".. كذلك أبيحت الرغبة المكنونة التي لا يصرح بها لا تصريحا ولا تلميحا. لأن الله يعلم أن هذه الرغبة لا سلطان لإرادة البشر عليها: {علم الله أنكم ستذكرونهن}.. وقد أباحها الله لأنها تتعلق بميل فطري، حلال في أصله، مباح في ذاته، والملابسات وحدها هي التي تدعو إلى تأجيل اتخاذ الخطوة العملية فيه. والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها. ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور، وطهارة الضمير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على الجملة التي قبلها، فهذا من الأحكام المتعلقة بالعدة، وقد تضمنت الآيات التي قبلها أحكام عدة الطلاق وعدة الوفاة، وأن أمد العدة محترم، وأن المطلقات إذا بلغن أجلهن جاز أن يفعلن في أنفسهن ما أردن من المعروف، فعلم من ذلك أنهن إذا لم يبلغنه لا يجوز ذلك فالتزوج في مدة الأجل حرام، ولما كان التحدث في التزوج إنما يقصد منه المتحدث حصول الزواج، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خطبة المعتدة ومواعدتها، حرصاً على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة فبينت الشريعة لهم تحريم ذلك، ورخصت في شيء منه ولذلك عطف هذا الكلام على سابقه.
وقوله: {ما عرضتم به} ما موصولة، وما صدقها كلام، أي كلام عرضتم به، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفادة من الكلام، وقد بينه بقوله: {من خطبة النساء} فدل على أن المراد كلام. ومادة فعَّل فيه دالة على الجعل مثل صوَّر... فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب. ونظير هذا قولهم جَنَبَه، أي جعله في جانب. فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئاً، غير المدلول عليه بالتركيب وضعاً، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، مع قرينة على إرادة المعنى التعريضي، فعلم ألابد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، وتلك المناسبة: إما ملازمة أو مماثلة، وذلك كما يقول العافى لرجل كريم: جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك، وقد عبر عن إرادتهم مثل هذا أمية بن أبي الصلت في قوله: إذَا أَثَنى عليكَ المرءُ يوماً *** كفاهُ عن تَعَرُّضه الثَّنَاء... وقوله: {واعلموا أن الله غفور حليم} تذييل، أي فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض لأنه حليم بكم، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة كما قدمنا، وأن الذريعة تقتضي تحريمه، لولا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس للوجوه التي قدمناها، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز لا مغفرة الذنب؛ لأن التعريض ليس بإثم، أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب والتجاوز عن المشاق، وشأن التذييل التعميم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{و لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} الخطبة من الخطاب، وهي مخاطبة المرأة أو ذويها في أمر زواجها،
والتعريض... [إنما] يبدو من لحن القول وإشارته والمقام ما يريده...كأنه يحوم به حول الشيء وعلى جوانبه ولا يظهر مراده.
والنساء المراد بهن في الآية هن المتوفى عنهن أزواجهن في أثناء العدة.
والإكنان في النفس أن يخفي إرادة الزواج والرغبة فيه مع الإصرار عليه، واعتزامه من غير إعلانه لأحد.
و معنى الجملة الكريمة: أنه لا إثم في التعريض بخطبة المتوفى عنهن أزواجهن، كما أنه لا إثم في الرغبة في الزواج منهن مع إكنان ذلك وستره من غير كشف وإعلان؛ لأن الكشف والإعلان قد يؤذي الميت، وهو فوق ذلك لا يليق بأهل المروءة من الرجال...
و التصريح بالخطوبة لا يجوز، حتى لا يؤذي أهل الميت، وحتى لا يدفعها إلى الامتناع عن الحداد على زواجها، فوق أن ذلك نقص في الخلق. وفساد في الذوق لا يصدر عن ذي إحساس كريم، فالتعريض فقط هو المباح في الخطبة في حال عدة الوفاة، وأساليب التعريض متباينة يبينها المقام...
{علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا} في هذه الجملة الكريمة يشير سبحانه وتعالى إلى طبائع النفس البشرية فيمنعها من الانسياق فيما يردي ويفسد، ويبيح لها ما لا ضرر فيه، وقد يكون فيه ما تطيب به نفوس، وتطمئن إليه قلوب...
و إن الذي نميل إليه أن {سرا} وصف لمحذوف أي لا تواعدوهن وعدا سريا بأي شكل من الأشكال، وفي أي موضوع من الموضوعات، لأن الإسرار يدفع إلى الخلوة فتكون الحال في مكان النهي حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما" والمعنى على هذا: لا تندفعوا وراء رغباتكم فتلتقوا بهن سرا وتقولوا معهن ما تستحيون من قوله جهرا، إما لأنه قبيح لا يعلن، وإما لأنه في غير وقته فيستنكر القول فيه فور الوفاة، وذلك فوق قبح الخلوة في ذاتها...
{واعلموا أن الله غفور حليم} في هذا الكلام الكريم الحكيم تحذير وتقريب، وتخويف ورحمة، إذ بين سبحانه أنه يعلم خلجات القلوب، وخطرات النفوس، وما تخفي الصدور وما يستكن فيها، وما يعلن، وإن للنفس هواجس وخواطر، فإذا همت النفس أو جالت فيها أمور تستهجن ولا تستحسن، كأن يجول بخاطره أن يكلم المعتدة من وفاة في أمر منكر لا يسوغ في الدين، ولا في العرف، ولا في الأخلاق، فليعلم أن الله عليه رقيب يعلم تلك الخواطر، فليحذره، لكيلا يبرزها إلى الوجود، فيندفع وراءها، وإنه إذا قمعها وقدع نفسه عنها، وجعلها في محيط قلبه لا تخرج منه، فإن ذلك يكون في عفو الله تعالى، ولذا قال سبحانه: {و اعلموا أن الله غفور حليم} يغفر الله فلا يأخذ العبد إلا بما يفعل ولا يأخذه بما يجول بخاطره، ولا بما تحدثه به نفسه، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء. تبارك الله سبحانه، هو المنتقم الجبار العفو القدير، الغفور الرحيم...
التشريع لأنه من إله رحيم لا يهدر عواطف النفس البشرية، لا من ناحية الذي يرغب في أن يتزوج، ولا من ناحية المرأة التي تستشرف أن تتزوج، فيعالج هذه المسألة بدقة وبحزم وبحسم معا فيقول –جل شأنه-: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكروهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور رحيم 235}... إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل للعواطف تنفيسا من هذه الناحية، والتنفيس ليس مجرد تعبير عن العاطفة، ولكنه رعاية للمصلحة، فمن الجائز أنه لو حزم التعريض لكان في ذلك ضياع فرصة الزواج للمرأة، أو قد يفوت هذا المنع الفرصة على من يطلبها من الرجال؛ لذلك يضع الحق القواعد التي تفرض على الرجل والمرأة معا أدب الاحتياط، وكأنه يقول لنا: أنا أمنعكم أن تخطبوا في العدة أو تقولوا كلاما صريحا وواضحا فيها، لكن لا مانع من التلميح من بعيد... مثلا يثنى الرجل على المرأة؛ ويعدد محاسنها بكلام لا يعد خروجا على آداب الإسلام مثل هذا الكلام هو تلميح وتعريض، وفائدته أنه يعبر عما في نفس قائله تجاه المطلقة فتعرف رأيه فيها، ولو لم يقل ذلك فربما سبقه أحد إليها وقطع عليه السبيل لإنفاذ ما في نفسه، ومنعه من أن يتقدم لخطبتها بعد انتهاء العدة، وقد يدفعه ذلك لأن يفكر تفكيرا آخر: للتعبير بأسلوب وشكل خاطئ. إذن فالتعريض له فائدة في أنه يُعرف المطلقة رأي فلان فيها حتى إن جاءها غيره لا توافق عليه مباشرة. وهكذا نرى قبساً من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا، بأن جعل العدة كمنطقة حرام تحمي المرأة، وجعل التعريض فرصة للتعبير عن العاطفة التي تؤسس مصلحة من بعد ذلك...
إن الحق يقول: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء}... أي لا جناح عليكم أن وضعتم في أنفسكم أمرا يخفى على المرأة، وللمسلم أن يكنن ويخفي في نفسه ما يشاء، ولكن ما الذي يُدري ويعلم المطلقة أنها في بالك يا من أسررت أمرها في نفسك؟ إنك لابد أن تلمح وأن تعرض بأسلوب يليق باحترام المرأة...
ويقول الحق: {علم الله أنكم ستذكرونهن}، إن الذي خلقك يعلم أنها مادامت في بالك، ومات زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت أملا بالنسبة لك، فلو أنه ضيق عليك لعوق عواطفك، ولضاعت منك الفرصة لأن تتخذها زوجة من بعد ذلك، ولهذا أباح الحق التعريض حتى لا يقع أحدكم في المحظور وهو {لا تواعدوهن سرا} بأن تأخذوا عليهن العهد ألا يتزوجن غيركم، أو يقول لها: تزوجيني. بل عليه أن يعرض ولا يفصح ولا يصرح. إن المواعدة في السر أمر منهي عنه، لكن المسموح به هو التعريض بأدب، {إلا أن تقولوا قولا معروفا} كأن يقول: (يا سعادة من ستكون له زوجة مثلك). ومثل ذلك من الثناء الذي يُطرب المرأة. ونعلم جميعا أن المرأة في مثل حال المطلقة أو المتوفى عنها زوجها تملك شفافية وألمعية تلتقط بها معنى الكلام ومراده...
ويتابع الحق: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} وهكذا نرى أن مجرد العزم الأكيد أمر نهى عنه. والعزم مقدم على الفعل فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل أقوى وأشد وأنهى، فلك أن تنوى الزواج منها وتتوكل على الله، لكن لا تجعله أمرا مفروغا منه، إلا بعد أن تتم عدتها، فإن بلغ الكتاب أجله وانتهت عدتها فاعزموا النكاح.
فكأن عقدة النكاح تمر بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: وهي التعريض أو التلميح. والمرحلة الثانية: هي العزم الذي لا يصح ولا يستقيم أن يتم إلا بعد انتهاء فترة العدة. والمرحلة الثالثة: هي العقد...
والمقصود بهذه المراحل أن يأخذ كل طرف فرصته للتفكير العميق في هذا الأمر الجاد، فإن كان التفكير قد هدى إلى العزم فإن للإنسان أن يعقد بعد انتهاء العدة، وإن كان التفكير قد اهتدى إلى الابتعاد وصرف النظر عن مثل هذا الأمر فللإنسان ما يريد.
ويريد الحق من هذه المراحل أن يعطي الفرصة في التراجع إن اكتشف أحد الطرفين في الآخر أمرا لا يعجبه. وكل هذه الخطوات تدل على أن العقد لا يكون إلا بعزم، فلا يوجد عقد دون عزم، إن الحق يريد من المسلم ألا يقدم على عقدة النكاح إلا بعد عزم. والعزم معناه التصميم على أنك تريد الزواج بحق الزواج وبكل مسئولياته، وبكل مهر الزواج، ومشروعيته، وإعفافه؛ فالزواج بدون أرضية العزم مصيره الفشل...
ومعنى العزم: أن تفكر في المسألة بعمق وروية في نفسك حتى تستقر على رأي أكيد، ثم لك أن تقبل على الزواج على أنه أمر له ديمومة وبقاء لا مجرد شهوة طارئة ليست لها أرضية من عزيمة النفس عليها...
لذلك يذيل الحق هذه الآية الكريمة بقوله: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم}. وهو سبحانه يعلم ضعف النفس البشرية وأنها قد تضعف في بعض الأحيان، فإن كان قد حدث منها شيء فالله يعطيها الفرصة في أن يتوب صاحبها لأنه سبحانه هو الغفور الحليم...