الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَجَعَلۡنَٰهَا نَكَٰلٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهَا وَمَا خَلۡفَهَا وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ} (66)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فجعلناها نكالا} لبني إسرائيل.

{لما بين يديها}، يقول: أخذناهم بمعاصيهم قبل صيد الحيتان...

{وما خلفها} ما استنوا من سنة سيئة، فاقتدى بها من بعدهم، فالنكال هي العقوبة، ثم مسخهم الله عز وجل في زمان داود، عليه السلام، قردة ثم حذر هذه الأمة، فقال سبحانه:

{وموعظة للمتقين} يعني تعظهم يا محمد أن يركبوا ما ركبت بنو إسرائيل من المعاصي، فيستحلوا محرما أو صيدا في حرم الله، أو تستحلوا أنتم حراما لا ينبغي فينزل بكم من العقوبة مثل ما نزل بالذين استحلوا صيد السمك يوم السبت.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"فَجَعَلْنَاهَا": اختلف أهل التأويل في تأويل الهاء والألف في قوله: "فَجَعَلْناها "وعلام هي عائدة، فروي عن ابن عباس فيها قولان: أحدهما ما:...عن ابن عباس: "فَجَعَلْنَاها "فجعلنا تلك العقوبة وهي المسخة نكالاً. فالهاء والألف من قوله: "فَجَعَلْناها" على قول ابن عباس هذا كناية عن المسخة...فمعنى الكلام على هذا التأويل: "فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِردَةً خاسِئِينَ" فصاروا قردة ممسوخين، "فَجَعَلْناها": فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم "نَكالاً لِمَا بينَ يَدَيْها وما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ".

والقول الاَخر من قولي ابن عباس...: "فجَعَلْناها" يعني الحيتان. والهاء والألف على هذا القول من ذكر الحيتان، ولم يجر لها ذكر. ولكن لما كان في الخبر دلالة كني عن ذكرها، والدلالة على ذلك قوله: "ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ في السّبْتِ".

وقال آخرون: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت. فالهاء والألف في قول هؤلاء كناية عن قرية القوم الذين مسخوا.

وقال آخرون: معنى ذلك: فجعلنا القردة الذين مسخوا نكالاً لما بين يديها وما خلفها، فجعلوا الهاء والألف كناية عن القردة.

وقال آخرون: "فجَعَلْناها" يعني به: فجعلنا الأمة التي اعتدت في السبت نكالاً.

" نَكالاً": والنكال مصدر من قول القائل: نكل فلان بفلان تنكيلاً ونكالاً، وأصل النكال: العقوبة.

" لِمَا بينَ يَدَيْها وَما خَلْفَها".

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم... عن ابن عباس: "لِمَا بينَ يَدَيْها" يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي، "وَما خَلْفَها" يقول: الذين كانوا بقوا معهم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: لِمَا بينَ يَدَيْهَا وَما خَلْفَها لما خلا لهم من الذنوب، وما خلفها: أي عبرة لمن بقي من الناس... عن مجاهد: "نَكالاً لِمَا بينَ يَدَيْها وَما خَلْفَها" يقول: "بين يديها" ما مضى من خطاياهم، "وما خلفها": خطاياهم التي هلكوا بها.

وقال آخرون... عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال ابن عباس: "فجَعلْناها نَكالاً لِمَا بينَ يَدَيْها وَما خَلْفَها" أي من القرى.

وقال آخرون... عن قتادة، قال الله: "فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بينَ يَدَيْها" من ذنوب القوم، "وَما خَلْفَها" أي للحيتان التي أصابوا.

وقال آخرون... عن السدي: "فجَعَلْناها نَكالاً لِمَا بينَ يَدَيْها وَما خَلْفَها" قال: أما ما بين يديها: فما سلف من عملهم، وما خلفها: فمن كان بعدهم من الأمم أن يعصوا فيصنع الله بهم مثل ذلك.

وقال آخرون... عن ابن عباس قوله: "فَجَعَلْناها نَكالاً لِمَا بينَ يَدَيْها ومَا خَلْفَها" يعني الحيتان جعلها نكالاً لما بين يديها وما خلفها من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان، وما عملوا بعد الحيتان، فذلك قوله: "ما بينَ يَدَيْها وَما خَلْفَها".

وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية ما رواه الضحاك عن ابن عباس وذلك لما وصفنا من أن الهاء والألف في قوله: "فجَعَلْناها نَكالاً" بأن تكون من ذكر العقوبة والمَسْخة التي مسخها القوم أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها، من أجل أن الله جل ثناؤه إنما يحذّر خلقه بأسه وسطوته، وبذلك يخوّفهم. وفي إبانته عز ذكره بقوله: "نَكالاً": أنه عنى به العقوبة التي أحلها بالقوم ما يعلم أنه عنى بقوله: "فجَعَلْناهَا نَكالاً لِمَا بَينَ يَدَيْها وَما خَلْفَها": فجعلنا عقوبتنا التي أحللناها بهم عقوبة لما بين يديها وما خلفها، دون غيره من المعاني. وإذا كانت الهاء والألف بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها، فكذلك العائد في قوله: "لِمَا بينَ يَدَيها وَما خَلْفَها" من الهاء والألف أن يكون من ذكر الهاء والألف اللتين في قوله: "فَجَعَلْناها" أولى من أن يكون من غيره.

فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة منهم مسخنا إياهم وعقوبتنا لهم، ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم، أن يعمل بها عامل، فيمسخوا مثل ما مسخوا، وأن يحلّ بهم مثل الذي حلّ بهم تحذيرا من الله تعالى ذكره عباده أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتى الممسوخون فيعاقبوا عقوبتهم.

وأما الذي قال في تأويل ذلك: "فجَعَلْناها" يعني الحيتان عقوبة لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم، فإنه أبْعَدَ في الانتزاع وذلك أن الحيتان لم يجر لها ذكر فيقال: "فجَعَلْناها" فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز وإن لم يكن جرى للحيتان ذكر، لأن العرب قد تكني عن الاسم ولم يجر له ذكر، فإن ذلك وإن كان كذلك، فغير جائز أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنزيل إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم منقول ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض.

وأما تأويل من تأوّل ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها، فينظر إلى تأويل من تأول ذلك بما بين يدي الحيتان وما خلفها.

" وَمَوْعِظَةً": والموعظة مصدر من قول القائل: وعظت الرجل أعظه وَعْظا وموعظة: إذا ذكّرته.

فتأويل الآية: فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها، وتذكرة للمتقين، ليتعظوا بها، ويعتبروا، ويتذكروا بها.

"للْمَتّقِينَ": وأما المتقون فهم الذين اتقوا بأداء فرائضه واجتناب معاصيه... فجعل تعالى ذكره ما أحلّ بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته موعظة للمتقين خاصة وعبرة للمؤمنين دون الكافرين به إلى يوم القيامة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{نكالا} عبرة تنكل من اعتبر بها أي تمنعه. ومنه النكل: القيد

{لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} لما قبلها {وَمَا خَلْفَهَا} وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين: أو أريد بما بين يديها: ما بحضرتها من القرى والأمم...

{وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ} للذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم، أو لكل متق سمعها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

والنكال: الزجر بالعقاب، والنكل والأنكال: قيود الحديد، فالنكال عقاب ينكل بسببه غير المعاقب عن أن يفعل مثل ذلك الفعل، قال السدي: ما بين يدي المسخة: ما قبلها من ذنوب القوم، {وما خلفها}: لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب، وهذا قول جيد، وقال غيره: «ما بين يديها» أي من حضرها من الناجين، {وما خلفها} أي لمن يجيء بعدها، وقال ابن عباس: {لما بين يديها}: أي من بعدهم من الناس ليحذر ويتقي، {وما خلفها}: لمن بقي منهم عبرة...

{وموعظة} مفعلة من الاتعاظ والازدجار.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...أما النكال، فقال القفال رحمه الله: إنه العقوبة الغليظة الرادعة للناس عن الإقدام على مثل تلك المعصية وأصله من المنع والحبس ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع منها، ويقال للقيد النكل، وللجام الثقيل أيضا نكل لما فيهما من المنع والحبس، ونظيره قوله تعالى: {إن لدينا أنكالا وجحيما} وقال الله تعالى: {والله أشد بأسا وأشد تنكيلا} والمعنى: أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء القوم عقوبة رادعة لغيرهم أي لم نقصد بذلك ما يقصده الآدميون من التشفي لأن ذلك إنما يكون ممن تضره المعاصي وتنقص من ملكه وتؤثر فيه، وأما نحن فإنما نعاقب لمصالح العباد فعقابنا زجر وموعظة، قال القاضي: اليسير من الذم لا يوصف بأنه نكال حتى إذ عظم وكثر واشتهر، يوصف به وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في السارق المصر القطع جزاء ونكالا وأراد به أن يفعل على وجه الإهانة والاستخفاف، فهو بمنزلة الخزي الذي لا يكاد يستعمل إلا في الذم العظيم، فكأنه تعالى لما بين ما أنزله بهؤلاء القوم الذين اعتدوا في السبت واستحلوا من اصطياد الحيتان وغيره ما حرمه عليهم ابتغاء الدنيا ونقضوا ما كان منهم من المواثيق، فبين أنه تعالى أنزل بهم عقوبة لا على وجه المصلحة لأنه كان لا يمتنع أن يقلل مقدار مسخهم ويغير صورهم بمنزلة ما ينزل بالمكلف من الأمراض المغيرة للصورة، ويكون محنة لا عقوبة، فبين تعالى بقوله: {فجعلناها نكالا} أنه تعالى فعلها عقوبة على ما كان منهم.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وقد أنزل سبحانه وتعالى بسبب هذه الشهوات الجامحة الخارجة عن مقتضى الطبع الإنساني عذابا شديدا من الذل بعد العزة، ومن الضيق بعد السعة، ومن الشدة بعد الرخاء ما جعلها عبرة لمن بين يدي الحاضرين، ومن يجيء بعدها من الناس، وعبر سبحانه وتعالى عن الحاضرين بقوله تعالى: {لما بين يديها} كناية عن وجودها معهم وأنها على مقربة منهم، قرب ما بين اليدين من الصدر، والذين تحوطهم ويحوطونها.

وإن ذلك العقاب يكون له صدى يتردد في الأجيال بعدهم جيلا بعد جيل، ومثل هذه القرية كمثل قرية عصت أمر الله تعالى وكفرت بأنعمه سبحانه، وقال فيها تعالت كلماته: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (112) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون} [النحل 113].

فما أشبه حال بني إسرائيل في أنعم الله تعالى عليهم بحال تلك القرية، وكأنها مثل بين لهم، والموعظة... من الوعظ، وهو التخويف والزجر بما وقع لغيره، ويكون للتذكير بالخير مما يرق له القلب، كما يكون للتذكير والإنذار بما وقع للعصاة.

وخص سبحانه وتعالى تأثير الموعظة بالمتقين وإن كانت هي للعالمين لتفردهم بالتأثر بها، والاهتداء بهديها وهم الذين تنفعل نفوسهم للخير لأنهم ليسوا مغرورين بعزة الشيطان ولكن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية، فمن دأبهم الحذر من الشر، وإذا ذكروا ذكروا، والله هو الهادي إلى الرشاد.