الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ} (45)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها}: مكينا عند الله عز وجل. {في الدنيا والآخرة}... {ومن المقربين}: عند الله في الآخرة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{إذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ}؛ وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم أيضا "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك"؛ والتبشير: إخبار المرء بما يسرّه من خبر. {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}: برسالة من الله، وخبر من عنده، وهو من قول القائل: ألقى فلان إليّ كلمة سرّني بها، بمعنى: أخبرني خبرا فرحت به، كما قال جلّ ثناؤه: {وَكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ} يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها.

فتأويل الكلام: وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده، هي ولد لك، اسمه المسيح عيسى ابن مريم.

وقد قال قوم، وهو قول قتادة: إن الكلمة التي قال الله عزّ وجلّ بكلمة منه، هو قوله: «كن».

فسماه الله عزّ وجلّ كلمته، لأنه كان عن كلمته، كما يقال لما قدر الله من شيء: هذا قدر الله وقضاؤه، يعني به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث، وكما قال جلّ ثناؤه: {وَكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً} يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور الذي كان عن أمر الله عزّ وجلّ.

وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء. ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الكلمة: هي عيسى.

وأقرب الوجوه إلى الصواب عندي القول الأول: وهو أن الملائكة بشرت مريم بعيسى عن الله عزّ وجلّ برسالته وكلمته التي أمرها أن تلقيها إليها، أن الله خالق منها ولدا من غير بعل ولا فحل، ولذلك قال عزّ وجلّ: {اسْمُهُ المَسِيحُ} فذكّر، ولم يقل اسمها فيؤنث، والكلمة مؤنثة، لأن الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان، وإنما هي بمعنى البشارة، فذكرت كنايتها، كما تذكر كناية الذرّية والدابة والألقاب، على ما قد بيناه قبل فيما مضى.

فتأويل ذلك كما قلنا آنفا، من أن معنى ذلك: إن الله يبشركِ ببشرى، ثم بين عن البشرى، أنها ولد اسمه المسيح.

{اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}: أنبأ عباده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمه مريم، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جلّ ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوته إلى الله عزّ وجلّ، وما قَذَفَت أُمَّهُ به المفتريةُ عليها من اليهود. وأما المسيح، فإنه فَعِيل، صرّف من مفعول إلى فعيل، وإنما هو ممسوح، يعني: مسحه الله فطهره من الذنوب، ولذلك قال إبراهيم: المسيح: الصدِّيق...

وقال آخرون: مسح بالبركة.

{وَجِيها فِي الدّنْيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرّبِينَ}: يعني بقوله «وجيها»: ذا وجه ومنزلة عالية عند الله وشرف وكرامة، ومنه يقال للرجل الذي يشرف وتعظمه الملوك والناس: وجيه يقال منه: ما كان فلان وجيها، ولقد وَجُهَ وجاهةً، وإن له لَوَجْها عند السلطان، وجاها ووجاهة...

{وَمِنَ المُقَرّبِينَ}: أنه ممن يقرّبه الله يوم القيامة، فيسكنه في جواره، ويدنيه منه.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{الْمَسِيحُ}: قال بعضهم: هو فعيل بمعنى المفعول يعني: أنهُ مُسِح من الأقذار وطهر...

وقيل: لأنه خرج من بطن أُمه ممسوحاً بالدهن...

وقيل: لأنه مسح القدمين لا أخمص له...

وقيل: مسحه جبرئيل بجناحهِ من الشيطان حتى لم يكن للشيطان فيه سبيل في وقت ولادته...

وسمي ذلك لأنهُ كان يمسح المرضى فيبرأون بإذن الله...

قال الكلبي: سمي بذلك لأنه كان يمسح عين الأعمى فيبصره...

وقيل: سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض يخوضها ولا يقيم في مكان، وعلى هذا القول الميم فيه زائدة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لم يُبَشرها بنصيب لها في الدنيا ولا في الآخرة من حيث الحظوظ، ولكن بَشَّرها بما أثبت في ذلك من عظيم الآية، وكونه نبياً لله مؤيَّداً بالمعجزة. ويقال عرَّفها أن مَنْ وقع في تغليب القدرة، وانتهى عند حكمه يَلْقَى من عجائب القدرة ما لا عهد به لأحد. ولقد عاشت مريم مدةً بجميل الصيت، والاشتهار بالعفة، فشوَّش عليها ظاهر تلك الحال بما كان عند الناس بسبب استحقاق ملام، ولكن -في التحقيق- ليس كما ظَنَّهُ الأغبياء الذين سكرت أبصارهم من شهود جريان التقدير...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{المسيح}: لقب من الألقاب المشرفة، كالصدّيق والفاروق، وأصله مشيحاً بالعبرانية، ومعناه المبارك، كقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ} [مريم: 31] وكذلك {عِيسَى} معرب من أيشوع. ومشتقهما من المسح والعيس، كالراقم في الماء...

{وَجِيهاً}... والوجاهة في الدنيا: النبوّة والتقدم على الناس. وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة. وكونه {مِنَ المقربين} رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد المقتضي للتفرد بالعظمة عبر بما صدرت به من اسم الذات الجامع لجميع الصفات فقال: {إن الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، فلا راد لأمره {يبشرك} وكرر هذا الاسم الشريف في هذا المقام زيادة في إيضاح هذا المرام بخلاف ما يأتي في سورة مريم عليها السلام، وقوله: {بكلمة} أي مبتدئة {منه} من غير واسطة أب هو من تسمية المسبب باسم السبب، والتعبير بها أوفق لمقصود السورة وأنفى لما يدعيه المجادلون في أمره، ثم بين أنه ليس المراد بالكلمة حقيقتها، بل ما يكون عنها ويكون فعالاَ بها فقال مذكراً للضمير: {اسمه} أي الذي يتميز به عمن سواه مجموع ثلاثة أشياء... {المسيح} أصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم: من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهراً متأهلاً للملك والعلم والمزايا الفاضلة مباركاً، فدل سبحانه وتعالى على أن عيسى عليه الصلاة والسلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يُمسَح... ولما وصفه بهذا الوصف الشريف ذكر اسمه فقال {عيسى} وبين أنه يكون منها وحدها من غير ذكر بقوله موضع ابنك: {ابن مريم} وذلك أنفى لما ضل به من ضل في أمره،... {وجيهاً} قال الحرالي: صيغة مبالغة مما منه الوجاهة، وأصل معناه الوجه وهو الملاحظ المحترم بعلو ظاهر فيه -انتهى...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

قوله تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم} شروع في خبر عيسى نفسه بعد قصة أمه وقصة زكريا عليهم السلام وهو بدل من قوله: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك} وما بينهما اعتراض ناطق بحكمة نزول الآيات مبين وجه دلالها على صدق من أنزلت عليه. والمعنى أن الملائكة بشرت مريم بالولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها وأمرتها بمزيد عبادته والاستغراق في شكره. والمراد بالملائكة هنا الروح جبريل لقوله تعالى في سورة مريم: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] إلخ الآيات وذكر بلفظ الجمع لما تقدم قصة زكريا أو لأنه كان معه غيره.

وفي لفظ (كلمة) أربعة وجوه:

(أحدها): أن المراد بالكلمة كلمة التكوين لا كلمة الوحي. ذلك أنه لما كان أمر الخلق والتكوين وكيفية صدوره عن الباري عز وجل مما يعلو عقول البشر عبر عنه سبحانه بقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس:82] فكلمة "كن "هي كلمة التكوين وسيأتي تفسيرها. وههنا يقال إن كل شيء قد خلق بكلمة التكوين فلماذا خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه؟ وأجيب عن ذلك بأن الأشياء تنسب في العادة والعرف العام في البشر إلى أسبابها ولما فقد في تكوين المسيح وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البيوض التي يتكون منها الجنين أضيف هذا التكوين إلى كلمة الله وأطلقت الكلمة على المكون إيذانا بذلك أو جعل كأنه نفس الكلمة مبالغة. وهذا هو الوجه المشهور.

(الوجه الثاني): أنه أطلق على المسيح للإشارة إلى بشارة الأنبياء به فهو قد عرف بكلمة الله أي بوحيه لأنبيائه. قاله الأستاذ الإمام والكلمة تطلق على الكلام كقوله: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} [الصافات: 171] إلخ.

(الوجه الثالث): أنه أطلق عليه لفظ الكلمة لمزيد إيضاحه لكلام الله الذي حرفه قومه اليهود حتى أخرجوه عن وجهه وجعلوا الدين ماديا محضا، قاله الرازي وجعله من قبيل وصف الناس للسلطان العادل بظل الله ونور الله، لما أنه سبب لظهور ظل العدل ونور الإحسان. قال فكذلك كان عيسى سببا لظهور كلام الله عز وجل بسبب كثرة بياناته له وإزالة الشبهات والتحريفات عنه.

(الوجه الرابع): أن المراد بالكلمة كلمة البشارة لأمه فقوله بكلمة منه معناه بخبر من عنده أو بشارة وهو كقول القائل ألقى إلي فلان كلمة سرني بها بمعنى أخبرني خبرا فرحت به، قاله ابن جرير واستشهد له بقوله: {وكلمة ألقاها إلى مريم} يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها قال: فتأويل القول: وما كنت يا محمد عند القوم إذا قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده هي ولد لك اسمه المسيح عيسى ابن مريم. ثم قال مستدلا على هذا ما نصه: ولذلك قال عز وجل اسمه المسيح فذكر ولم يقل اسمها فيؤنث والكلمة مؤنثة لأن الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان وإنما هي بمعنى البشارة، فذكرت كنايتها كما تذكر الذرية والدابة والألقاب إلى آخر ما أطال به في المسألة من جهة العربية.

أما لفظ "المسيح" فمعرب وأصله العبراني "شيحا" ومعناه الممسوح وهو لقب الملك عندهم لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس وهم يعبرون عن توليه الملك بالمسح وعن الملك بالمسيح. وقد اشتهر أن أنبياءهم بشروهم بمسيح يظهر فيهم وأنهم كانوا يعتقدون أنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض فلما ظهر عيسى عليه السلام وسمي بالمسيح آمن به قوم. وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء ولا يزال سائر اليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها، وأنه لا بد أن يظهر فيهم ملك. وقد بين الأستاذ الإمام معنى صدق لفظ المسيح على عيسى عليه السلام بحسب عرفهم فقال: إن الناس إنما يولون الملك عليهم لأجل تقرير العدل فيهم ورفع أثقال الظلم عنهم وقد فعل المسيح ذلك. فإن اليهود كانوا عند بعثته فيهم متمسكين بظواهر ألفاظ الكتاب وخاضعين لأفهام الكتبة والفريسيين وأوهامهم حتى أرهقهم ذلك عسرا وتركهم ينأون من الظلم وأثقال التكاليف. فرفع المسيح ذلك عنهم بإرجاعهم إلى مقاصد الدين وحملهم على الأخوة الرافعة للظلم.

أقول: وقد نقلوا عنه ما يفيد هذا المعنى وهو أن مملكته روحانية لا جسدية. وقد لاح عند الكتابة أن قوله تعالى: {اسمه المسيح عيسى} يراد به أن لفظ المسيح هنا أجري مجرى العلم لا مجرى الوصف والعلم المشتق لا يشترط فيه أن يكون مسماه متصفا بالمعنى الذي يدل إذا استعمل وصفا. فإذا وضعت لفظ "علي" علما على رجل يصير مدلوله شخص ذلك الرجل سواء كان ذا علو أم لا وإذا سميت ابنتك "ملكة" لم يكن لأحد أن يفسر اللفظ بالمعنى الذي وضع له اللفظ قبل العلمية. وقد يجوز أن يلمح المعنى الذي ينقل لفظه إلى العلمية أحيانا. وقد ذكر المفسرون بضعة وجوه لتفسير لفظ المسيح بناء على أنه مشتق من المسح ولا حاجة إلى ذكر شيء منها.

وأما لفظ "عيسى" فهو معرب يشوع بقلب الحروف بعد جعل المعجمة مهملة وهذا يكثر في المنقول من العبرانية إلى العربية. فسين المسيح وموسى شين في العبرانية وكذلك سين شمس فهي عندهم بمعجمتين. وإنما قيل: ابن مريم مع كون الخطاب لها، إعلاما لها بأنه ليس له أب ولذلك قالت بعد البشارة {رب أنى يكون لي ولد} الخ.

وقوله تعالى في وصفه {وجيها في الدنيا والآخرة} معناه أنه يكون وجاهة وكرامة في الدارين فالوجيه ذو الجاه والوجاهة. والمادة مأخوذة من الوجه حتى قالوا إن لفظ الجاه أصله وجه، فنقلت الواو إلى وضع العين، فقلبت ألفا ثم اشتقوا منه فقالوا جاه فلان يجوه، كما قالوا وجه يوجه، وذو الجاه يسمى وجها كما يسمى وجيها ويقال إن لفلان وجها عند السلطان كما يقال إن له جاها ووجاهة وكأن الأصل في الوجيه من يعظم ويحترم عند المواجهة لما له من المكانة في النفوس.

وقال الإمام الغزالي: الجاه ملك القلوب. قال الأستاذ الإمام: إن كون المسيح ذا جاه ومكانة في الآخر ظاهر. وأما وجاهته في الدنيا فهي قد تكون موضع إشكال لما عرفت من امتهان اليهود له ومطاردتهم إياه على فقره وضعف عصبيته. والجواب عن ذلك سهل وهو أن الوجيه في الحقيقة من كانت له مكانة في القلوب واحترام ثابت في النفوس، ولا يكون أحد كذلك حتى يكون له أثر حقيقي ثابت من شأنه أن يدوم بعده زمنا طويلا أو غير طويل. ولا ينكر أحد أن منزلة المسيح في نفوس المؤمنين به كانت عظيمة جدا وأن ما جاء به من الإصلاح هو من الحق الثابت. وقد بقي بعده. فهذه الوجاهة أعلى وأرفع من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون في الظواهر لظلمهم واتقاء شرهم أو لدهانهم والتزلف إليهم رجاء الانتفاع بشيء مما في أيديهم من عرض الحياة الدنيا لأن هذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغض والانتقاض وتلك وجاهة حقيقية مستحوذة على القلوب.

وحقيقة الوجاهة في الآخرة: هي أن يكون الوجيه في مكان علي ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها فيجلونه ويعلمون أنه مقرب من الله تعالى ولا يمكننا أن نحددها ونعرف بماذا تكون. قال قائل في الدرس: إن هذه الوجاهة تكون بالشفاعة. فقال الأستاذ الإمام: إن الآية لم تبين ذلك، على أنكم تقولون إن هذه الشفاعة عامة لكل نبي وعالم وصالح فما هي مزية المسيح إذن؟ ولما كانت الوجاهة متعلقة بالناس وما يعود من مطارح أنظارهم على شعور قلوبهم وخطرات أفكارهم قال تعالى فيه {ومن المقربين} أي هو مع ذلك من عباد الله المقربين إليه عز وجل. فما ينعكس عن أنظار الناظرين إليه إلى مرايا قلوبهم حقيقي في نفسه.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يخبر تعالى أن الملائكة بشرت مريم عليها السلام بأعظم بشارة، وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم، سمي كلمة الله لأنه كان بالكلمة من الله، لأن حالته خارجة عن الأسباب، وجعله الله من آياته وعجائب مخلوقاته، فأرسل الله جبريل عليه السلام إلى مريم، فنفخ في جيب درعها فولجت فيها تلك النفخة الزكية من ذلك الملك الزكي، فأنشأ الله منها تلك الروح الزكية، فكان روحانيا نشأ من مادة روحانية، فلهذا سمى روح الله {وجيها في الدنيا والآخرة} أي: له الوجاهة العظيمة في الدنيا، جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والأتباع،... ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب، وفي الآخرة وجيها عند الله يشفع أسوة إخوانه من النبيين والمرسلين، ويظهر فضله على أكثر العالمين، فلهذا كان من المقربين إلى الله، أقرب الخلق إلى ربهم، بل هو عليه السلام من سادات المقربين...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لقد تأهلت مريم -إذن- بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل، واستقبال هذا الحدث، وها هي ذي تتلقى -لأول مرة- التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير: (إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم. وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين. ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين).. إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله. بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم.. فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة. وهو الكلمة في الحقيقة. فماذا وراء هذا التعبير؟... إن هذه وأمثالها، من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد.. ربما كانت من الذي عناه الله بقوله: (أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله...) إلخ.

ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله، وصنعته وقدرته، ومشيئته الطليقة:

لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب -وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله. سر الحياة التي لابست أول مخلوق حي، أو لابست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت! وهذه كتلك في صنع الله. وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة...

من أين جاءت هذه الحياة؟ وكيف جاءت؟ إنها قطعا شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض.. شيء زائد. وشيء مغاير. وشيء ينشئ آثارا وظواهر لا توجد أبدا في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق..

هذا السر من أين جاء؟ إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر! كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم!

نحن لا نعلم. وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها- نحن البشر -بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها. أو لإنشائها بأيدينا من الموات!

نحن لا نعلم.. ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم.. وهو يقول لنا: إنها نفخة من روحه. وإن الأمر قد تم بكلمة منه. (كن. فيكون)..

ما هي هذه النفخة؟ وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام؟

ما هي؟ وكيف؟ هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه، لأنه ليس من شأنه. إنه لم يوهب القدرة على إدراكه. إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئا في وظيفته التي خلقه الله لها- وظيفة الخلافة في الأرض -إنه لن يخلق حياة من موات.. فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة، وماهية النفخة من روح الله، وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية؟

والله- سبحانه -يقول: إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة- حتى على الملائكة -فلا بد إذن أن تكون شيئا آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب! وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنسا نشأ نشأة ذاتية، وأن له اعتبارا خاصا في نظام الكون، ليس لسائر الأحياء!

وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا، إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارئ لما عرضناه جدلا حول نشأة الإنسان!

المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة؛ وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات..

وقد شاء الله- بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة -أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقا معينا. طريق التقاء ذكر وأنثى. واجتماع بويضة وخلية تذكير. فيتم الإخصاب، ويتم الإنسال. والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة.

ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة.. حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان. فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى. وإن لم تكن مثلها تماما. أنثى فقط. تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء. فتنشأ فيها الحياة!

أهذه النفخة هي الكلمة؟ آلكلمة هي توجه الإرادة؟ آلكلمة: (كن) التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة؟ والكلمة هي عيسى، أو هي التي منها كينونته؟

كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات.. وخلاصتها هي تلك: أن الله شاء أن ينشئ حياة على غير مثال. فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشئ الحياة بنفخة من روح الله. ندرك آثارها، ونجهل ماهيتها. ويجب أن نجهلها. لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض، ما دام إنشاء الحياة ليس داخلا في تكليف الاستخلاف!

والأمر هكذا سهل الإدراك. ووقوعه لا يثير الشبهات!

وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم.. فتضمنت البشارة نوعه، وتضمنت اسمه ونسبه. وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه.. ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه: (وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين)..