غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ} (45)

42

القصة الرابعة حكاية ولادة عيسى وذكر طرف من معجزاته { إذ قالت الملائكة } يعني جبريل كما مر . ومتعلق " إذ " هو متعلق { وإذ قالت } لأن هذا بدل من ذاك ، ويجوز أن يكون بدلاً من قوله : { إذ يختصمون } .

قال في الكشاف : هذا على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع كما تقول : لقيته سنة كذا يعني وإنما لقيته في ساعة منها . فيكون الزمان الواسع زماناً لكل منهما ، فيكون الثاني بدل الكل من الأول . ويجوز أن يتعلق ب { يختصمون } ولا يحتاج إلى زمان واسع بناء على ما روي عن الحسن أنها كانت عاقلة في حال الصغر ، وأن ذلك كان من كراماتها ، فجاز أن ترد عليها البشرى في حالة الصغر ولا يفتقر إلى أن يؤخر إلى حين العقل . واعلم أن حدوث الشخص من غير نطفة الأب أمر ممكن في نفسه ، وكيف لا وقد يشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كتولد الفأر عن المدر ، والحيات عن الشعر العفن ، والعقارب عن الباذروج غايته الاستبعاد عرفاً وعادة وهذا لا يوجب عند الحكماء ظناً قوياً فضلاً عن العلم . ثم إن الصادق أخبر عن وجود ذلك الممكن فيجب القطع بصحته . ومما يزيده في العقل بياناً أن التخيلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث . كتصور حضور المنافي للغضب ، وكتصور السقوط لحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلاف ما لو كان على قرار من الأرض . وقد جعلت الفلاسفة هذا كأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات . فما المانع أن يقال إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها ، فإن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد ، فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد . قوله : { بكلمة منه } لفظة " من " ههنا ليست للتبعيض كما توهمت النصارى والحلولية لأنه تعالى غير متبعض بوجه من الوجوه ، ولكنها لابتداء الغاية أي بكلمة حاصلة من الله . وذلك أن عيسى لما خلق من غير واسطة أب صار تأثير كلمة " كن " في حقه أظهر وأكمل فكان كأنه نفس الكلمة ، كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال إنه محض الجود ونفس الكرم وصريح الإقبال . وللمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق . وأصله " مشيحا " بالعبرانية ومعناه المبارك { وجعلني مباركاً أينما كنت }[ مريم : 31 ] وكذلك عيسى معرب " إيشوع " . أما احتمال اشتقاق عيسى من العيس البياض الذي تعلوه حمرة فبعيد ، وأما احتمال المسيح من المسح فقريب وعليه الأكثرون . عن ابن عباس : سمي بذلك لأنه ما كان يمسح ذا عاهة إلا يبرأ . وقال أحمد بن يحيى : لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها . وعلى هذا فيجوز أن يقال له مسيح بالتشديد كشريب . وقيل : لأنه مسح من الأوزار والآثام . وقيل : لأنه لم يكن في قدمه خمص وكان ممسوح القدمين . وقيل : لأنه ممسوح بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم .

قالوا : ويجوز أن يكون هذا الدهن جعله الله علامة للملائكة يعرفون بها الأنبياء حين يولدون . وقيل : لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت ولادته صيانة له عن مس الشيطان . وقيل : لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن . وأما المسيح الدجال فسمي بذلك لأنه مسح إحدى عينيه ، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة . قالوا : ومثله الدجال دجل في الأرض أي قطعها . وقيل : الدجال من دجل الرجل إذا موّه ولبس . وتقديم المسيح - وهو اللقب - على الاسم - وهو عيسى - للتشريف والتنبيه على علو درجته . وإنما نسب إلى مريم والخطاب لمريم تنبيهاً على أنه لا أب له حتى ينسب إليه كما في سائر الأبناء فلا ينسب إلا إلى أمه . وذلك من جملة ما اصطفيت به . وإنما ذكر ضمير الكلمة في اسمه لأنه المسمى بها مذكر . وإنما قيل : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } والاسم من المجموع عيسى والمسيح لقب والابن صفة ، لأن المراد التعريف والتمييز والذي يتميز به عن غيره هو مجموع الثلاثة . { وجيهاً } ذا الجاه والشرف والقدر . وقيل : الكريم لأن أشرف أعضاء الإنسان هو الوجه { في الدنيا } بالنبوة والمعجزات الباهرة وبالبراءة عن العيوب { والآخرة } بشفاعة الأمة المحقين وعلو الدرجة في الجنة . ونصبه على الحال من النكرة الموصوفة وهي كلمة . وكذا انتصاب ما بعده كما مر في الوقوف أي يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات . وكونه من المقربين هو رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة .

/خ60