مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ} (45)

{ إذ قالت الملآئكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ، ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين } .

اعلم أنه تعالى لما شرح حال مريم عليها السلام ، في أول أمرها وفي آخر أمرها وشرح كيفية ولادتها لعيسى عليه السلام ، فقال : { إذ قالت الملائكة } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : اختلفوا في العامل في { إذ } قيل : العامل فيه . وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة ، وقيل : يختصمون إذ قالت الملائكة ، وقيل : إنه معطوف على { إذ } الأولى في قوله { إذ قالت امرأت عمران } وقيل التقدير : إن ما وصفته من أمور زكريا ، وهبة الله له يحيى كان إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك ، وأما أبو عبيدة : فإنه يجري في هذا الباب على مذهب له معروف ، وهو أن { إذ } صلة في الكلام وزيادة ، واعلم أن القولين الأولين فيهما بعض الضعف وذلك لأن مريم حال ما كانوا يلقون الأقلام وحال ما كانوا يختصمون ما بلغت الجد الذي تبشر فيه بعيسى عليه السلام ، إلا قول الحسن : فإنه يقول إنها كانت عاقلة في حال الصغر ، فإن ذلك كان من كراماتها ، فإن صح ذلك جاز في تلك الحال أن يرد عليها البشرى من الملائكة ، وإلا فلا بد من تأخر هذه البشرى إلى حين العقل ، ومنهم من تكلف الجواب ، فقال : يحتمل أن يقال الاختصام والبشرى وقعا في زمان واسع ، كما تقول لقيته في سنة كذا ، وهذا الجواب بعيد والأصوب هو الوجه الثالث ، والرابع ، أما قول أبي عبيدة : فقد عرفت ضعفه ، والله اعلم .

المسألة الثانية : ظاهر قوله { إذ قالت الملائكة } يفيد الجمع إلا أن المشهور أن ذلك المنادي كان جبريل عليه السلام ، وقد قررناه فيما تقدم ، وأما البشارة فقد ذكرنا تفسيرها في سورة البقرة في قوله { وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات } [ البقرة : 25 ] .

وأما قوله تعالى : { بكلمة منه } فقد ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان الأول : أن كل علوق وإن كان مخلوقا بواسطة الكلمة وهي قوله { كن } إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقودا في حق عيسى عليه السلام وهو الأب ، فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكل وأتم فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود ، ومحض الكرم ، وصريح الإقبال ، فكذا ههنا .

والوجه الثاني : أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه ، وبأنه نور الله لما أنه سبب لظهور ظل العدل ، ونور الإحسان ، فكذلك كان عيسى عليه السلام سببا لظهور كلام الله عز وجل بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه فلا يبعد أن يسمى بكلمة الله تعالى على هذا التأويل .

فإن قيل : ولم قلتم إن حدوث الشخص من غير نطفة الأب ممكن قلنا : أما على أصول المسلمين فالأمر فيه ظاهر ويدل عليه وجهان الأول : أن تركيب الأجسام وتأليفها على وجه يحصل فيها الحياة والفهم ، والنطق أمر ممكن ، وثبت أنه تعالى قادر على الممكنات بأسرها ، وكان سبحانه وتعالى قادرا على إيجاد الشخص ، لا من نطفة الأب ، وإذا ثبت الإمكان ، ثم إن المعجز قام على صدق النبي ، فوجب أن يكون صادقا ، ثم أخبر عن وقوع ذلك الممكن ، والصادق إذا أخبر عن وقوع الممكن وجب القطع بكونه كذلك ، فثبت صحة ما ذكرناه الثاني : ما ذكره الله تعالى في قوله { إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم } [ آل عمران : 59 ] فلما لم يبعد تخليق آدم من غير أب فلأن لا يبعد تخليق عيسى من غير آب كان أولى وهذه حجة ظاهرة ، وأما على أصول الفلاسفة فالأمر في تجويزه ظاهر ويدل عليه وجوه الأول : أن الفلاسفة اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التوالد من غير تولد قالوا : لأن بدن الإنسان إنما استعد لقبول النفس الناطقة التي تدبر بواسطة حصول المزاج المخصوص في ذلك البدن ، وذلك المزاج إنما جعل لامتزاج العناصر الأربعة على قدر معين في مدة معينة ، فحصول أجزاء العناصر على ذلك القدر الذي يناسب بدن الإنسان غير ممتنع وامتزاجها غير ممتنع ، فامتزاجها يكون عند حدوث الكيفية المزاجية واجبا ، وعند حدوث الكيفية المزاجية يكون تعلق النفس بذلك البدن واجبا ، فثبت أن حدوث الإنسان على سبيل التولد معقول ممكن ، وإذا كان الأمر كذلك فحدوث الإنسان لا عن الأب أولى بالجواز والإمكان .

الوجه الثاني : وهو أنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد ، كتولد الفأر عن المدر ، والحيات عن الشعر ، والعقارب عن الباذروج ، وإذا كان كذلك فتولد الولد لا عن الأب أولى أن لا يكون ممتنعا .

الوجه الثالث : وهو أن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث الكثيرة ليس أن تصور المنافي يوجب حصول كيفية الغضب ، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن أليس اللوح الطويل إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه ، بل كلما مشى عليه يسقط وما ذاك إلا أن تصور السقوط يوجب حصول السقوط ، وقد ذكروا في «كتب الفلسفة » أمثلة كثيرة لهذا الباب ، وجعلوها كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات ، فما المانع من أن يقال إنه لما تخيلت صورته عليه السلام كفي ذلك في علوق الولد في رحمها . وإذا كان كل هذه الوجوه ممكنا محتملا كان القول بحدوث عيسى عليه السلام من غير واسطة الأب قولا غير ممتنع ، ولو أنك طالبت جميع الأولين والآخرين من أرباب الطبائع والطب والفلسفة على إقامة حجة إقناعية في امتناع حدوث الولد من غير الأب لم يجدوا إليه سبيلا إلا الرجوع إلا استقراء العرف والعادة ، وقد اتفق علماء الفلاسفة على أن مثل هذا الاستقراء لا يفيد الظن القوي فضلا عن العلم ، فعلمنا أن ذلك أمر ممكن فلما أخبر العباد عن وقوعه وجب الجزم به والقطع بصحته .

أما قوله تعالى : { بكلمة منه } فلفظة { من } ليست للتبعيض ههنا إذ لو كان كذلك لكان الله تعالى متجزئا متبعضا متحملا للاجتماع والافتراق وكل من كان كذلك فهو محدث وتعالى الله عنه ، بل المراد من كلمة { من } ههنا ابتداء الغاية وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة صار تأثير كلمة الله تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر فكان كونه كلمة { الله } مبدأ لظهوره ولحدوثه أكمل فكان المعنى لفظ ما ذكرناه لا ما يتوهمه النصارى والحلولية .

وأما قوله تعالى : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } ففيه سؤالات :

السؤال الأول : المسيح : هل هو اسم مشتق ، أو موضوع ؟ .

والجواب : فيه قولان الأول : قال أبو عبيدة والليث : أصله بالعبرانية مشيحا ، فعربته العرب وغيروا لفظه ، وعيسى : أصله يشوع كما قالوا في موسى : أصله موشى ، أو ميشا بالعبرانية ، وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق .

والقول الثاني : أنه مشتق وعليه الأكثرون ، ثم ذكروا فيه وجوها الأول : قال ابن عباس : إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحا ، لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة ، إلا بريء من مرضه الثاني : قال أحمد بن يحيى : سمي مسيحا لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها ، ومنه مساحة أقسام الأرض ، وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال : لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب الثالث : أنه كان مسيحا ، لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى ، فعلى هذه الأقوال : هو فعيل بمعنى : فاعل ، كرحيم بمعنى : راحم الرابع : أنه مسح من الأوزار والآثام والخامس : سمي مسيحا لأنه ما كان في قدمه خمص ، فكان ممسوح القدمين والسادس : سمي مسيحا لأنه كان ممسوحا بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ، ولا يمسح به غيرهم ، ثم قالوا : وهذا الدهن يجوز أن يكون الله تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبيا السابع : سمي مسيحا لأنه مسحه جبريل صلى الله عليه وسلم بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صونا له عن مس الشيطان الثامن : سمي مسيحا لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن ، وعلى هذه الأقوال يكون المسيح ، بمعنى : الممسوح ، فعيل بمعنى : مفعول . قال أبو عمرو بن العلاء المسيح : الملك . وقال النخعي : المسيح الصديق والله أعلم . ولعلهما قالا ذلك من جهة كونه مدحا لا لدلالة اللغة عليه ، وأما المسيح الدجال فإنما سمي مسيحا لأحد وجهين أحدهما : لأنه ممسوح أحد العينين والثاني : أنه يمسح الأرض أي : يقطعها في المدة القليلة ، قالوا : ولهذا قيل له : دجال لضربه في الأرض ، وقطعه أكثر نواحيها ، يقال : قد دجل الدجال إذا فعل ذلك ، وقيل : سمي دجالا من قوله : دجل الرجل إذا موه ولبس .

السؤال الثاني : المسيح كان كاللقب له ، وعيسى كالاسم فلم قدم اللقب على الاسم ؟ .

الجواب : أن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفا رفيع الدرجة ، مثل الصديق والفاروق فذكره الله تعالى أولا بلقبه ليفيد علو درجته ، ثم ذكره باسمه الخاص .

السؤال الثالث : لم قال عيسى بن مريم والخطاب مع مريم ؟ .

الجواب : لأن الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات ، فلما نسبه الله تعالى إلى الأم دون الأب ، كان ذلك إعلاما لها بأنه محدث بغير الأب ، فكان ذلك سببا لزيادة فضله وعلو درجته .

السؤال الرابع : الضمير في قوله : اسمه عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير ؟ .

الجواب : لأن المسمى بها مذكر .

السؤال الخامس : لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم ؟ والاسم ليس إلا عيسى ، وأما المسيح فهو لقب ، وأما ابن مريم فهو صفة .

الجواب : الاسم علامة المسمى ومعرف له ، فكأنه قيل : الذي يعرف به هو مجموع هذه الثلاثة .

أما قوله تعالى : { وجيها في الدنيا والآخرة } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : معنى الوجيه : ذو الجاه والشرف والقدر ، يقال : وجه الرجل ، يوجه وجاهة هو وجيه ، إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان ، وقال بعض أهل اللغة : الوجيه : هو الكريم ، لأن أشرف أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال .

واعلم أن الله تعالى وصف موسى صلى الله عليه وسلم بأنه كان وجيها قال الله تعالى : { يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } [ الأحزاب : 69 ] ثم للمفسرين أقوال : الأول : قال الحسن : كان وجيها في الدنيا بسبب النبوة ، وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى والثاني : أنه وجيه عند الله تعالى ، وأما عيسى عليه السلام ، فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بسبب دعائه ، ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام والثالث : أنه وجهه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه اليهود بها ، ووجيه في الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عند الله تعالى .

فإن قيل : كيف كان وجيها في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه ، قلنا : قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه ، وآذوه إلى أن برأه الله تعالى مما قالوا ، وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام ، فكذا ههنا .

المسألة الثانية : قال الزجاج { وجيها } منصوب على الحال ، المعنى : أن الله يبشرك بهذا الولد وجيها في الدنيا والآخرة ، والفراء يسمي هذا قطعا كأنه قال : عيسى ابن مريم الوجيه فقطع منه التعريف .

أما قوله { ومن المقربين } ففيه وجوه أحدها : أنه تعالى جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم بواسطة هذه الصفة وثانيها : أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه عليه السلام سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة وثالثها : أنه ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقربا لأن أهل الجنة على منازل ودرجات ، ولذلك قال تعالى : { وكنتم أزواجا ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] إلى قوله { والسابقون السابقون أولئك المقربون } [ الواقعة : 10-11 ] .