الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـَٔاتِهِمۡ فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَعۡدَ ٱلصِّدۡقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ} (16)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم نعت المسلمين فقال: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا} يقول: نجزيهم بإحسانهم ولا نجزيهم بمساوئهم، والكفار يجزيهم بإساءتهم ويبطل إحسانهم لأنهم عملوا ما ليس بحسنة، ثم رجع إلى المؤمنين، فقال: {ونتجاوز عن سيئاتهم} ولا يفعل ذلك بالكافر {في} يعني مع {أصحاب الجنة وعد الصدق} يعني وعد الحق وهو الجنة {الذي كانوا يوعدون}، وعدهم الله، تعالى، الجنة في الآخرة على ألسنة الرسل في الدنيا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفة صفتهم، هم الذين يتُقبل عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه "وَيَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِم "يقول: ويصفح لهم عن سيئات أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فلا يعاقبهم عليها "في أصحَابِ الجَنّةِ" يقول: نفعل ذلك بهم فعلنا مثل ذلك في أصحاب الجنة وأهلها الذين هم أهلها... كما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن الغطريف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين، قال: «يُؤْتَىَ بِحَسَناتِ العَبْد وَسَيّئاته، فَيُقُتَصّ بَعْضُها ببَعْض فإنْ بَقيَتْ حَسَنةٌ وَسّعَ اللّهُ لَهُ في الجَنّةِ» قال: فدخلتُ على يزداد، فحدّث بمثل هذا الحديث، قال: قلت: فإن ذهبت الحسنة؟ قال: "أُولَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِمْ"، الآية...

وقوله: "وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كانُوا يُوعَدُون" يقول: وعدهم الله هذا الوعد، وعد الحقّ لا شك فيه أنه موفَ لهم به، الذي كانوا إياه في الدنيا يعدهم الله تعالى، ونصب قوله: "وَعْدَ الصّدْقِ" لأنه مصدر خارج من قوله: "يَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئاتِهِم"، وإنما أخرج من هذا الكلام مصدر وعد وعدا، لأن قوله: يَتَقَبّلُ عَنْهُمْ وَيَتَجاوَزُ وعد من الله لهم، فقال: وعد الصدق، على ذلك المعنى.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

كان لهم أعمال حسنات وسيئات، وأخبر أنه يتقبّل عنهم حسناتهم، ويجزيهم جزاءها، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويُكفّرها، ولا يجزيهم جزاءها فضلا منه ورحمة. والمراد من الأحسن الحسن، ويجوز ذلك في اللغة. وقوله تعالى: {وعد الصِّدق الذي كانوا يوعدون} أي ذلك الذي أخبر، وذكر أنه يفعل لهم، هو وعد الصدق الذي يفي لهم، وهو قادر على وفاء ما وعد...

ومن يكون منه الخُلف في الوعد في الشاهد إنما يكون لأحد وجوه ثلاثة: إما لعجز يمنعه عن وفاء ما وعد، وإما لجهل وبدو يبدو له، فيرجع عن ذلك، وإما لحاجة، والله سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك كلّه للقدرة الذاتية والغنى الذاتي والعلم الأزليّ، والله الموفّق.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

فقبولُ الطاعةِ وغفران الزَّلَّة مشروطان ببرِّ الوالدين، وقد ذمَّ اللَّهُ -سبحانه- الذي يتصف في حقهما بالتأفُّفِ، وفي ذلك تنبيهٌ على ما وراء ذلك من أي تعنُّف، وعلى أنَّ الذي يَسْلكُ ذلك يكونُ من أهل الخسران، وبالتالي يكون ناقصَ الإيمان...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: ما معنى قوله: {فِي أصحاب الجنة}؟ قلت: هو نحو قولك: أكرمني الأمير في ناس من أصحابه، تريد: أكرمني في جملة من أكرم منهم، ونظمني في عدادهم،... على معنى: كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

بين تعالى بقوله {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا} أن من تقدم ذكره ممن يدعو بهذا الدعاء، ويسلك هذه الطريقة التي تقدم ذكرها {نتقبل عنهم} والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله... فإن قيل ولم قال تعالى: {أحسن ما عملوا} والله يتقبل الأحسن وما دونه؟ قلنا الجواب من وجوه:

الأول: المراد بالأحسن الحسن كقوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} كقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان، أي عادلا بني مروان.

الثاني: أن الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب والأحسن ما يغاير ذلك، وهو كل ما كان مندوبا أو واجبا...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{أولئك} أي العالو الرتبة {الذين نتقبل} بأسهل وجه {عنهم} وأشار سبحانه بصيغة التفعل إلى أنه عمل في قبوله عمل المعتني، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون فيه وفي الذي بعده، ويدل على ذلك قوله تعالى: {أحسن} ويجوز أن يراد به مطلق الدعاء أو الطاعات ويكون ما دون الأحسن مقبولاً، قبولاً مطلقاً على مقدار النية فيه، وتكون التعدية يعني إشارة إلى أن جبلاتهم مبنية على الترقي في معارج الكمال في كل وقت إلى غير نهاية، فتكون هذه المحاسن ليست منهم- بمعنى أنهم مجبولون على أعلى منها في نهاياتهم والعبرة بالنهايات ولذلك قال تعالى: {ما عملوا} ولم يقل: أعمالهم. ولما كان الإنسان محل النقصان وإن كان محسناً، نبه على ذلك وعلى أن شرط تكفير السيئات التوبة بقوله تعالى: {ونتجاوز} أي بوعد مقبول لا بد من كونه، وهو معنى قراءة حمزة والكسائي بالنون في الفعلين {عن سيئاتهم} أي فلا يحاسبهم عليها. ولما كان هذا مفهماً لأنهم من أهل الجنة، صرح به زيادة في مدحهم بقوله: {في أصحاب الجنة} أي أنه فعل بهم ذلك وهم في عدادهم لأنهم لم يزالوا فيهم لأنهم ما برحوا بعين الرضا. ولما كان هذا وعداً، أكد مضمونه بقوله: {وعد الصدق} لكونه مطابقاً للواقع {الذي كانوا} بكون ثابت جداً {يوعدون} أي يقطع لهم الوعد به في الدنيا ممن لا أصدق منهم، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

{أولئك} أي الموصوفون بالتوبة والاستقامة... {في أصحاب الجنة} أي: معدودين في زمرتهم ثوابا ومقاما. قال الشهاب: والظاهر أنه من قبيل {وكانوا فيه من الزاهدين} ليدل على المبالغة بعلوّ منزلتهم فيها، إذ قولك (فلان من العلماء) أبلغ من قولك (عالم). ولم يبيّنوه هاهنا، ومن لم يتنبه لهذا قال {في} بمعنى (مع). انتهى...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وعدّي فعل {يتقبل} بحرف (عَن)، وحقه أن يعدّى بحرف (مِن) تغليباً لجانب المدعو لهم وهم الوالدان والذريّة، لأن دعاء الوَلد والوالد لأولئك بمنزلة النيابة عنهم في عبادة الدعاء وإذا كان العمل بالنيابة متقبلاً علم أن عمل المرء لنفسه متقبل أيضاً ففي الكلام اختصار كأنه قيل: أولئك يتقبل منهم ويتقبل عن والديْهم وذريتهم أحسن ما عملوا...

.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الآية التالية بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم، وقد أشارت إلى مكافآت مهمّة ثلاث... فقالت أوّلاً: (أُولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا). أي بشارة أعظم من أن يتقبل الله القادر المنان عمل عبد ضعيف لا قدر له، وهذا القبول بحدِّ ذاته، وبغض النظر عن آثاره الأُخرى، فخر عظيم، وموهبة معنوية عالية... والهبة الثّانية هي تطهيرهم، فتقول: (ونتجاوز عن سيئاتهم). والموهبة الثّالثة هي أنّهم (في أصحاب الجنّة)، فيطهرون من الهفوات التي كانت منهم، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند الله سبحانه...

ويستفاد بصورة ضمنية من هذا التعبير أنّ المراد من (أصحاب الجنّة) هنا العباد المقرّبون الذين لم يصبهم غبار المعاصي، وهؤلاء المؤمنون التائبون يكونون في مصافهم بعد أن ينالوا غفران الله ورضاه...

ملاحظات:

ـ إنّ هذه الآيات تجسيد للإنسان المؤمن من أصحاب الجنّة، الذي يطوي أوّلاً مرحلة الكمال الجسمي، ثمّ مرحلة الكمال العقلي، ثمّ يصل إلى مقام شكر نعم الله تعالى، وشكر متاعب والديه، والتوبة عمّا بدر منه من هفوات وسقطات ومعاص، ويهتم أكثر بالقيام بالأعمال الصالحة، ومن جملتها تربية الأولاد، وأخيراً يرقى إلى مقام التسليم المطلق لله تعالى ولأوامره، وهذا هو الذي يغمره في رحمة الله ومغفرته ونعمه المختلفة التي لا تحصى. نعم، ينبغي أن يعرف أهل الجنّة من هذه الصفات. 2 ـ إنّ التعبير بـ (وصينا الإنسان) إشارة إلى أنّ مسألة الإحسان إلى الوالدين من الأصول الإنسانية، ينجذب إليها ويقوم بها حتى أُولئك الذين لا يلتزمون بدين أو مذهب، وبناءً على هذا، فإنّ الذين يعرضون عن أداء هذه الوظيفة، ويرفضون القيام بهذا الواجب، ليسوا مسلمين حقيقيين، بل لا يستحقون اسم الإنسان. 3 ـ إنّ التعبير بـ «إحساناً» وبملاحظة أنّ النكرة في هذه الموارد لبيان عظمة الأمر وأهميته، ويشير إلى أنّه يجب ـ بأمر الله سبحانه ـ الإحسان إلى الأبوين إحساناً جميلاً مقابلة لخدماتهم الجليلة التي أسدوها.

ـ لأنّ آلام ومعاناة الأُم في طريق تربية الطفل محسوسةٌ وملموسةٌ أكثر، ولأنّ جهود الأُم أكثر أهمية إذا ما قورنت بجهود الأب.

...

...

...

ـ إنّ جملة: (وأن أعمل صالحاً ترضاه) تبيّن أنّ العمل الصالح هو العمل الذي يبعث على رضى الله سبحانه...