تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أهل الكتاب}: يعني اليهود، {قد جاءكم رسولنا} محمد صلى الله عليه وسلم، {يبين لكم} الدين، {على فترة من الرسل} فيها تقديم، وكان بين محمد وعيسى، صلى الله عليهما وسلم ستمائة سنة، {أن تقولوا}: لئلا تقولوا: {ما جاءنا من بشير} بالجنة، {ولا نذير} من النار، يقول: {فقد جاءكم بشير ونذير}، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، {والله على كل شيء قدير}، إذ بعث محمدا رسولا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أهْلَ الكِتابِ اليهود الذين كانوا بين ظهرانيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الآية. وذلك أنهم أو بعضهم فيما ذُكِر لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الايمان به وبما جاءهم به من عند الله، قالوا: ما بعث الله من نبيّ بعد موسى، ولا أنزل بعد التوراة كتابا.
"قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا": قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا، "يُبَيّنُ لَكُمْ": يعرّفكم الحقّ، ويوضح لكم أعلام الهدى، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى... جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحقّ والباطل، فيه بيان الله ونوره وهداه، وعصمة لمن أخذ به.
"عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ": على انقطاع من الرسل. والفّترة في هذا الموضع: الانقطاع، يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحقّ والهدى على انقطاع من الرسل. والفترة: الفَعْلة، من قول القائل: فَتَر هذا الأمر يَفْتُر فتورا، وذلك إذا هدأ وسكن، وكذلك الفَترة في هذا الموضع معناها: السكون، يراد به سكون مجيئ الرسُل، وذلك انقطاعها... ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة، أو ما شاء من ذلك الله أعلم.
"أنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ": أن لا تقولوا، وكي لا تقولوا، كما قال جلّ ثناؤه: "يُبّينُ اللّهُ لكُمْ أنْ تَضِلّوا": أن لا تضلوا، وكي لا تضلوا. فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل، كي لا تقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير. يُعلمهم عزّ ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغ إليهم في الحجة. ويعني بالبشير: المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله وعمل بما آتاه من عند الله بعظيم ثوابه في آخرته، وبالنذير المنذر من عصاه وكذّب رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه بما لا قِبَل له به من أليم عقابه في معاده وشديد عذابه في قيامته.
"فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ":
يقول جلّ ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم: قد أعذرنا إليكم، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم، وأرسلناه إليكم، ليبين لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم، كيلا تقولوا لم يأتنا من عندك رسول يبين لنا ما نحن عليه من الضلالة، فقد جاءكم من عندي رسول، يبشر من آمن بي وعمل بما أمرتُهُ، وانتهى عما نهيته عنه، ويُنذر من عصاني وخالف أمري، وأنا القادر على كلّ شيء، أقدر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي، وتصديقكم بشيري ونذيري، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أراده ولا يفوته شيء طلبه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يقال في: كل زمان تقع فَتْرَة في سبيل الله ثم تجدد الحال، ويعم الطريق بإبداء السالكين من كتم العَدَم، ولقد كان زمانُ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- أكثرَ الأزمنة بركةً، فأحيا بظهوره ما اندرس من السبيل، وأضاء بنوره ما انطمس من الدليل، وبذلك مَنَّ عليهم، وذكَّرهم عظيمَ نعمتِه فيهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: الامتنان عليهم، وأن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي أحوج ما يكون إليه، ليهشوا إليه ويعدّوه أعظم نعمة من الله، وفتح باب إلى الرحمة، وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم عن غفلتهم.
الفائدة في بعثة محمد عليه الصلاة والسلام عند فترة من الرسل هي أن التغيير والتحريف قد تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها، وبسبب ذلك اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب، وصار ذلك عذرا ظاهر في اعراض الخلق عن العبادات. لأن لهم أن يقولوا: يا إلهنا عرفنا أنه لابد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد، فبعث الله تعالى في هذا الوقت محمدا عليه الصلاة والسلام إزالة لهذا العذر، وهو {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} يعني إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت الفترة كراهة أن تقولوا: ما جاءنا في هذا الوقت من بشير ولا نذير.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دحضت حجتهم، ووضحت أكذوبتهم، اقتضى ذلك الالتفات إلى وعظهم على وجه الامتنان عليهم وإبطال ما عساهم يظنونه حجة، فقال تعالى: {يا أهل الكتاب} أي من الفريقين؛ ولما كان ما حصل لهم من الضلال بتضييع ما عندهم من البينات وتغييرها ما لا يتوقع معه الإرسال، قال معبراً بحرف التوقع: {قد جاءكم رسولنا} أي الذي عظمته من عظمتنا، فإعظامه وإجلاله واجب لذلك، ثم بين حاله مقدماً له على متعلق جاء بياناً لأنه أهم ما إلى الرسل إليهم إرشاداً إلى قبول كل ما جاء به بقوله: {يبين لكم} أي يوقع لكم البيان في كل ما ينفعكم بياناً شافياً لما تقدم وغيره.
ولما كان مجيئه ملتبساً ببيانه وظرفاً له غير منفك عنه، وكان بياناً مستعلياً على وقت مجيئه وما مضى قبله وما يأتي بعده ببقاء كتابه، محفوظاً لعموم دعوته وختامه وتفرده، فلا نبي بعده، قال معلقاً بجاء: {على فترة} أي طويلة بالنسبة إلى ما كان يكون بين النبيِّين من بني إسرائيل، مبتدئة تلك الفترة {من الرسل} أي انقطاع من مجيئهم، شُبِّه فقدهم وبُعْد العهد بهم ونسيان أخبارهم، وبلاء رسومهم وآثارهم، وانطماس معالمهم وأنوارهم بشيء كان يفنى ففتر، لم يبق من وصفه المقصود منه إلا أثر خاف ورسم دارس، يقال: فتر الشيء -إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه وذلك لأنه كان بين عيسى وبين النبي صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة فسد فيها أمر الناس، ولعله عبر بالمضارع في يبين إشارة إلى أن دينه وبيانه لا ينقطع أصلاً بحفظ كتابه، فكلما درست سنة منح الله بعالم يرد الناس إليها بالكتاب المعجز القائم أبداً، فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبي مجدد إلا عند الفتنة التي لا يطيقها العلماء، وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج، ثم علل ذلك بقوله: {أن} أي كراهة أن {تقولوا} أي إذا حشرتم وسئلتم عن أعمالكم {ما جاءنا} ولتأكيد النفي قيل: {من بشير} أي يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز {ولا نذير} أي يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم، لأن الإنسان موزَّع النقصان بين الرغبة والرهبة، وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل فالتبس الأمر وجهل الحال، لكنه لم يجهل جهلاً يحصل به عذر في الشرك، وسأبينه في أول ص.
ولما كان المعنى: فلا تقولوا ذلك، سبب عنه قوله: {فقد جاءكم} أي من هو متصف بالوصفين معاً فهو {بشير ونذير} أي كامل في كل من الوصفين وإن تباينا؛ ولما كان ربما كان توهم أحد من ترك الإرسال زمن الفترة، ومن ترك التعذيب بغير حجة الإرسال، وبالعدول عن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل شيئاً في القدرة، قال كاشفاً لتلك الغمة: {والله} أي جاءكم والحال أن الملك الذي له الكمال كله {على كل شيء} أي من أن يرسل في كل وقت وأن يترك ذلك، وأن يهدي بالبيان وأن يضل، ومن أن يعذب ولا يقبل عذراً وأن يغفر كل شيء وغير ذلك {قدير} وفي الختم بوصف القدرة واتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوة والملك بعدما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبي يلزم منه إنكارهم للقدرة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} أي قد جاءكم رسولنا المبشر به في كتبكم، المنتظر في اعتقادكم، فإن الله أخبركم على لسان موسى أنه سيقيم نبيا من بني إسماعيل إخوتكم، وعلى لسان عيسى ابن مريم بأنه سيجيئ بعده البارقليط روح الحق الذي يعلمكم كل شيء، ولا تزال هذه البشارات في كتبكم، وإن حرفتموها بسوء فهم أو بسوء قصد منكم،...
وهذا هو الرسول محمد النبي العربي الأمي الذي لم يتعلم شيئا، وهو يبين لكم على فترة أي انقطاع من الرسل، وطول عهد على الوحي، جميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، وما يصلح به أمر دنياكم، من العقائد الحق التي أفسدتها عليكم نزعات الوثنية، والأخلاق والآداب الصحيحة التي أفسدها عليكم الإفراط والتفريط في الأمور المادية والروحية، والعبادات والأحكام التي تصلح بها أموركم الشخصية والاجتماعية – فترك التصريح بمفعول (يبين لكم) إفادة العموم – ويدخل فيه ما بينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب لإقامة الحجة عليكم. ولو لم يكن رسولا من عند الله تعالى لما عرف هذا ولا ذاك مما تقاصرت عنه علوم أحباركم ورهبانكم، وحكمائكم وساستكم. جاء رسولنا محمد يبين لكم كل هذا ليقطع معذرتكم ويمنعكم يوم القيامة {أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} يبشرنا عاقبة المؤمنين الصالحين المتقين، وينذرنا ويخوفنا سوء عاقبة المفسدين الضالين المغرورين. {فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} يبين لكم أن أمر النجاة والخلاص، والسعادة الأبدية في دار القرار، ليس منوطا بأمانيكم التي تتمنونها، وأوهامكم التي تغترون بها، بل هو منوط بالإيمان والأعمال، وأن الله تعالى لا يحابي أحدا من الناس، قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:123 – 124] {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه أن يريكم صدق نبيه بنصر دعوته وإعلاء كلمته في الدنيا، لتقيسوا على ذلك إن عقلتم ما يكون من الأمر في الدار الأخرى.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} انقادت الأشياء طوعا وإذعانا لقدرته، فلا يستعصي عليه شيء منها، ومن قدرته أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وينهي هذا البيان، بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب، يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام المصير وجها لوجه. بلا غبش ولا عذر، ولا غموض: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل.. أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير.. فقد جاءكم بشير ونذير. والله على كل شيء قدير).. وبهذه المواجهة الحاسمة، لا تعود لأهل الكتاب جميعا حجة من الحجج.. لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم. فالله -سبحانه- يقول: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا.. ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل؛ يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف.. فقد جاءهم -الآن- بشير ونذير.. ثم يذكرهم أن الله لا يعجزه شيء.. لا يعجزه أن يرسل رسولا من الأميين. ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون: (والله على كل شيء قدير).. وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب؛ فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل. وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين. وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي؛ وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين.. وبهذا كله تدعوهم إلى الهدى من ناحية؛ وتضعف تأثير كيدهم في الصف المسلم من ناحية أخرى. وتنير الطريق للجماعة المسلمة ولطلاب الهدى جميعا.. إلى الصراط المستقيم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كَرّر الله موعظتهم ودعوتَهم بعد أن بيّن لهم فسادَ عقائدهم وغرورَ أنفسهم بياناً لا يدع للمنصف متمسَّكاً بتلك الضلالات، كما وعظهم ودعَاهُم آنفاً بمثل هذا عقّب بيان نقضهم المواثيق. فموقع هذه الآية تكرير لموقع قوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من الكتاب} [المائدة: 15] الآيات، إلاّ أنّه ذكر الرسولَ صلى الله عليه وسلم هنا بوصف مجيئه على فترة من الرسل ليذكِّرهم بأنّ كتبهم مصرّحة بمجيء رسول عقب رسلهم، وليريهم أنّ مجيئه لم يكن بِدعاً من الرسل إذ كانوا يَجيئون على فِتَر بينهم. وذُكِر الرسول هنالك بوصف تبيينه ما يخفونه من الكتاب لأنّ ما ذُكر قبلَ الموعظة هنا قد دلّ على مساواة الرسل في البشرية ومساواة الأمم في الحاجة إلى الرسالة، وما ذكر قبلَ الموعظة هنالك إنّما كان إنباء بأسرار كتبهم وما يخفون عِلمه عن النّاس لما فيه من مساويهم وسوء سمعتهم. وحذف مفعول {يبيّن} لظهور أنّ المراد بيان الشريعة. فالكلام خطاب لأهل الكتاب يتنزّل منزلة تأكيد لِجملة {يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون} [المائدة: 15]، فلذلك فصلت.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
مباحث لفظية تشير إلى نواحي البيان العالي في النص الكريم: المبحث الأول: في التعبير بقوله تعالى: {قد جاءكم} بدل أن يقال "جاء إليكم "لأن التعدية بغير "إلى" فيها معنى الملاحقة والملازمة وأنه لا مناص من إتباعه، ففرق بين أن يقال جاء إليه، وأن يقال جاءه، لأن الثانية تضمن الملازمة، وأنهم لا يستطيعون الخروج عما جاء به إلا إذا أذنبوا.
الثاني: وإضافة كلمة الرسول إلى الذات العلية في قوله تعالت كلماته: {رسولنا} إشارة إلى معنى قدسية هذه الرسالة ومكانتها وأنها ممن لا تسوغ مخالفته ولا الخروج عن طاعته.
الثالث: ابتداء الخطاب بقوله: {يا أهل الكتاب} تنبيه لهم بأن مصاحبتهم للكتاب وكونهم أهل معرفة يوجبان عليهم الطاعة، والاستجابة لأنهم عرفوا رسالة الله تعالى إلى خلقه وأنه ما خلقهم عبثا ولا يتركهم هملا وأنه إن خالفوا ما جاءهم به الرسول يكون اللوم لهم أشد إذ يكون عصيانهم عن بينة ومعرفة. الرابع: في قوله: {يبين لكم على فترة من الرسل} فالفعل "يبين" قدر له بعض العلماء مفعولا وتقديره: يبين لكم الأحكام والتكليفات والأوامر الخالدة وبعض العلماء لا يقدر له مفعولا على أساس أنه منزل منزلة اللازم، وعلى هذا يكون المعنى: جاء رسولنا بالبيان الكافي المشرق الكاشف للظلمة التي وقعتم فيها وبذلك يشمل كل التكليفات وكل ما تشتمل عليه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك البيان كان بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه وقد روي عن قتادة أنه قال في هذا المعنى: "قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل} وهو محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله تعالى ونوره وهداه وعصمة لمن أخذ به"...
ويفسر كثيرون من المفسرين أن قوله تعالى: {على فترة} معناه حين فترة، وعندي أن تفسيرها بظرف آخر وهو "عند" يكون أدق، لأن الرسالة كانت نهاية الفترة فهي كانت عندهم في نهايتها، ولم تكن في حينها ووقتها والتعبير بقوله تعالى: {على فترة} فيه معنى فوقية الرسالة على الفترة وعلوها عليها كعلو البيان على الجهل، والنور على الظلمة وفيه لوم لأنه يشير إلى أنه لا يسوغ لهم أن يجحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم ينزلون من الأعلى إلى الأدنى. {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} المقصود الواضح من هذا النص هو بيان أن حكمة مجيء الرسول هو قطع العذر على من يحتج بالجهل وعدم معرفة أوامر الله تعالى ونواهيه، فالمعنى على هذا هو أن رسولنا قد جاءكم يبين لكم الطريق المستقيم وطريق الحق القويم لكيلا تقولوا: ما جاءنا من بشير يبشر بالخير عند الطاعة وينذرنا بالعذاب عند المعصية بل إن الله تعالى قطع العذر عليهم وأبلغ الحجة فلا عذر لجاهل، ولا اعتذار لمتجاهل...
وإن هذا الخطاب لأهل الكتاب وبخاصة اليهود مع ما فيه من بيان الحقائق، وضع الاعتذار فيه تهديد وفيه إشارة لسلطان الله تعالى، ولهذا ختم الآية الكريمة بهذا النص الكريم: {والله على كل شيء قدير}. كان هذا ختام الآية الكريمة وفيه إشارة إلى أمور ثلاثة: أولها: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار الرسل ويختار معجزاتهم، وعلى ذلك لا يصح لأحد أن يدعي أنه رسول، ولا يأتي أحد من بعده إلا إذا أخبر هو عن إرادته العالية، كما هو الشأن بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم أما موسى عليه السلام، فلم تكن رسالته خاتمة الرسائل ولو كان حيا ما وسعه إلا إتباع محمد. ثانيها: أن تغير المعجزات في دائرة قدرة الله تعالى، فهو خالقها وهو الذي يختارها بحكمته بما يناسب كل رسول، وليس لمن كانت الرسالة موجهة إليهم أن يختاروا على الله تعالى، فهو المريد المختار الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ثالثها: أن الله تعالى هو وحده القادر على تنفيذ ما أمر به رسوله من تبشير وإنذار فهو المعطي وهو المعاقب وهو المانح وهو المانع وسيكون العقاب الشديد نازلا بهم إن عصوا، وليس بأمانيهم ولا أماني أهل الكتاب.