تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قل يا محمد لكفار مكة: {من ينجيكم من ظلمات البر والبحر}، يعني الظلل والظلمة والموج، {تدعونه تضرعا}: مستكينين، {وخفية}: في خفض وسكون، {لئن أنجانا من هذه} الأهوال، {لنكونن من الشاكرين} لله في هذه النعم، فيوحدوه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الداعين لك إلى عبادة أوثانهم: من الذين ينجيكم من ظلمات البرّ إذا ضللتم فيه فتحريتم فأظلم عليكم الهدى والمحجة؟ ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه فأخطأتم فيه المحجة فأظلم عليكم فيه السبيل فلا تهتدون له، غير الله الذي مفزعكم حينئذ بالدعاء تضرّعا منكم إليه واستكانة جهرا وخفية؟ يقول: وإخفاء للدعاء أحيانا، وإعلانا وإظهارا، تقولون:"لَئِن أنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ" يا ربّ: أي من هذه الظلمات التي نحن فيها، "لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرينَ": لنكوننّ ممن يوحدك بالشكر ويخلص لك العبادة دون من كنا نُشركه معك في عبادتك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم اختلف في ظلمات البر والبحر: قال بعضهم: الظلمات هي الشدائد والكروب التي تصيبهم بالسلوك في البر والبحر، وقال آخرون: الظلمات [هي الأسفار] لأن أسفار البحار والمغاور إنما تقطع بأعلام السماء؛ فإذا أظلمت السماء بقوا متحيرين لا يعرفون إلى أي ناحية يسلكون، ومن أي طريق يأخذون. فعند ذلك يدعون الله {تضرعا وخفية}. قال الحسن: التضرع هو ما يرفع به الصوت، والخفية هي ما يدعى سرا، وهو من الإخفاء. وفي حرف ابن مسعود: تدعونه تضرعا وخيفة؛ وهي من الخوف. قال الكلبي: في خفض وسكون وتضرع إلى الله. {لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين} قال أبو بكر: قوله تعالى: {لنكونن من الشاكرين} أي لا نوجه الشكر إلى غيرك. والشكر ههنا هو التوحيد؛ أي لئن أنجيتنا لنكونن من الموحدين لك من بعد؛ لأنهم كانوا يوحدون الله في ذلك الوقت. لكنهم إذا نجوا من ذلك أشركوا غيره. ألا ترى أنه قال: {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون}؟ [الأنعام: 64].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله تعالى نبيه أن يخاطب الخلق ويقول لهم على وجه التقريع لمن يعبد الأصنام منهم -"من ينجيكم من ظلمات البر والبحر" ومعناه شدائد البر والبحر، تقول العرب لليوم الذي يلقى فيه الشدة: يوم مظلم حتى أنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل...فمعنى ظلمات البر والبحر: شدائدهما. وقوله: "تدعونه تضرعا وخفية" أي مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إلى الشيء والحاجة و "تدعونه" "خفيه" أي تدعونه في أنفسكم بما تضمرون من حاجاتكم إليه كما تظهرون. وقوله "لئن أنجيتنا من هذه" أي في شدة وقعوا فيها، يقولون "لئن أنجيتنا من هذه" لنشكرنك، فأمر الله أن يسألهم على وجه التوبيخ لهم والتقرير بأنه ينجيهم وأنه القادر على نفعهم وضرهم. ثم أعلمهم أن الله الذي أقروا بأنه ينجيهم هو ينجيهم ثم هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها من صنعهم وأنها لا تضر ولا تنفع وأنه تعالى على تعذيبهم قادر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا تماد في توبيخ العادلين بالله الأوثان، وتوقيفهم على سوء الفعل في عبادتهم الأصنام وتركهم الذي ينجي من المهلكات ويلجأ إليه في الشدائد،... و {ظلمات البر والبحر} يراد به شدائدهما، فهو لفظ عام يستغرق ما كان من الشدائد بظلمة حقيقية وما كان بغير ظلمة، والعرب تقول عام أسود، ويوم مظلم، ويوم ذو كواكب ونحو هذا يريدون به الشدة،... وخص لفظ «الظلمات» بالذكر لما تقرر في النفوس من هول الظلمة.
..ولفظ الآية يدل على أن عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور: أحدها: الدعاء. وثانيها: التضرع. وثالثها: الإخلاص بالقلب، وهو المراد من قوله: {وخفية} ورابعها: التزام الاشتغال بالشكر، وهو المراد من قوله: {لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} ثم بين تعالى أنه ينجيهم من تلك المخاوف، ومن سائر موجبات الخوف والكرب. ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك، ونظير هذه الآية قوله: {ضل من تدعون إلا إياه}، وقوله: {وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين}، وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك. إذا شاهدوا الأمر الهائل أخصلوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي: {تضرعاً} أي مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر، وحقيقته الخشوع {و} قوله: {خفية} أي تخفون في أنفسكم مثل ما تظهرون؛ قال شمر: يقال: ضرع له وضرع وتضرع أي تخشع وذل؛ ثم قال: وضرع الرجل يضرع ضرعا- إذا استكان وذل، وهو ضارع بيّن الضراعة، وهؤلاء قوم ضرع، أي أذلاء، وهم ضرعة أي متضرعون، والتضرع إلى الله: التخشع إليه والتذلل، وإذا كان الرجل مختل الجسم قلت: إنه لضارع الجسم بيّن الضروع، وفي الذل بين الضراعة -انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية} ظلمات البر والبحر قسمان: ظلمات حسية كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر، وظلمات معنوية كظلمة الجهل بالطرق والمسالك،... وظلمة الشدائد والأخطار، كالعواصف والأعاصير وهياج البحار، أو مساورة الأفاعي والسباع، أو مكافحة العدد الكثير من الأعداء، وتسمية هذه الأمور المعنوية ظلمات من المجاز كتسمية الجهل والكفر والضلال بذلك – وهو كثير في التنزيل –. ونقلوا أنه قيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب. وأقول لا يصح إطلاق الظلمة على كل شدة، بل على الشدة التي لها عاقبة سيئة مجهولة تخشى ولا تعلم، فهو يرجع إلى معنى الجهل... والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم، وما أودع من آيات التوحيد في أعماق فطرتهم،: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر الحسية والمعنوية عند ما تغشاكم في أسفاركم حال كونكم تدعونه عند وقوعكم في كل ظلمة منها دعاء تضرع ودعاء خفية قائلين {لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63)} أي مقسمين هذا القسم في دعائكم: لئن أنجانا الله من هذه الظلمة أو الداهية المظلمة لنكونن من المتصفين بالشكر الدائم له، المنتظمين في سلك أهله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولمَّا كان هذا الكلام تهديداً وافتتح بالاستفهام التقريري تعيَّن أنّ المقصود بضمائر الخطاب المشركون دون المسلمين. وأصرح من ذلك قوله: {ثم أنتم تشركون}.
وإعادة الأمر بالقول للاهتمام، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {قل أرأيتِكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} [الأنعام: 40] الآية. والاستفهام مستعمل في التقرير والإلجاء، لكون ذلك لا ينازعون فيه بحسب عقائد الشرك.
والظلمات قيل على حقيقتها، فيتعيَّن تقدير مضاف، أي من إضرار ظلمات البرّ والبحر، فظلمات البرّ ظلمة الليل التي يلتبس فيها الطريق للسائر والتي يخشى فيها العدوّ للسائر وللقاطن، أي ما يحصل في ظلمات البرّ من الآفات. وظلمات البحر يخشى فيها الغرق والضلال والعدوّ. وقيل: أطلقت الظلمات مجازاً على المخاوف الحاصلة في البرّ والبحر، كما يقال: يوم مُظلم إذا حصلت فيه شدائد. ومن أمثال العرب (رأى الكواكب مُظْهِراً)، أي أظلم عليه يومه إظلاماً في عينيه لما لاقاه من الشدائد حتَّى صار كأنَّه ليل يرى فيه الكواكب. والجمع على الوجهين روعي فيه تعدّد أنواع ما يعرض من الظلمات، على أنَّنا قدّمنا في أوّل السورة أنّ الجمع في لفظ الظلمات جَرى على قانون الفصاحة. وجملة: {تدعونه} حال من الضمير المنصوب في {يُنَجِّكُمْ}.
وقرئ {من ينجِّيكم} بالتشديد لنافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبي جعفر، وخلف. وقرأه يعقوب بالتخفيف.
والتضرّع: التذلّل، كما تقدّم في قوله: {لعلَّهم يتضرّعون} في هذه السورة [42]. وهو منصوب على الحال مؤوّلاً باسم الفاعل. والخفية بضم الخاء وكسرها ضد الجهر. وقرأه الجمهور بضم الخاء. وقرأه أبو بكر عن عاصم بكسر الخاء وهو لغة مثل أسوة وإسوة. وعطف خفية} على {تضرّعاً} إمَّا عطف الحال على الحال كما تعطف الأوصاف فيكون مصدراً مؤوّلاً باسم الفاعل، وإما أن يكون عطف المفعول المطلق على الحال على أنَّه مبيّن لنوع الدعاء، أي تدعونه في الظلمات مخفين أصواتكم خشية انتباه العدوّ من النّاس أو الوحوش.
وجملة {لئِن أنجيتنا} في محلّ نصب بقول محذوف، أي قائلين. وحذف القول كثير في القرآن إذا دلَّت عليه قرينة الكلام. واللام في {لئن} الموّطئة للقسم، واللام في {لَنكوننّ} لام جواب القسم. وجيء بضمير الجمع إمَّا لأنّ المقصود حكاية اجتماعهم على الدعاء بحيث يدعو كلّ واحد عن نفسه وعن رفاقه. وإمَّا أريد التعبير عن الجمع باعتبار التوزيع مثل: ركِبَ القوم خَيْلَهم، وإنَّما ركب كلّ واحد فَرَساً.
وقرأ الجمهور {أنجيتنا} بمثناة تحتية بعد الجيم ومثناة فوقية بعد التحتية. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي وخلف {أنجانا} بألف بعد الجيم والضمير عائد إلى {مَنْ} في قوله: {قل من ينجيّكم}.
والإشارة ب {هذه} إلى الظلمة المشاهدة للمتكلِّم باعتبار ما ينشأ عنها، أو باعتبار المعنى المجازي وهو الشدّة، أو إلى حالة يعبّر عنها بلفظ مؤنّث مثل الشدّة أو الورطة أو الربْقة.
والشاكر هو الذي يراعي نعمة المنعم فيحسن معاملته كلّما وجد لذلك سبيلاً. وقد كان العرب يرون الشكر حقَّاً عظيماً ويعيّرون من يكفر النعمة.
وقولهم: {من الشاكرين} أبلغ من أن يقال: لنكوننَّ شاكرين، كما تقدّم عند قوله تعالى: {لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين} [لأنعام: 56].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مرّة أُخرى يأخذ القرآن بيد المشركين ويتوغلّ بهم إِلى أعماق فطرتهم، وهناك في تلك الأغوار المحفوفة بالأسرار الغامضة يريهم نور التوحيد وعبادة الواحد الأحد، فيقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قل لهم: (قُل مَن يُنجّيكُم مِنْ ظُلمات البرِّ وَالبَحر)؟
إِنّ الظلام يكون حسياً أحياناً ومعنوياً أحياناً أُخرى، الظلام الحسي هو الذي يكون عند انقطاع النّور انقطاعا تاماً، أو يضعف بحيث لا يرى شيء، أو يرى بالجهد الجهيد، والظلام المعنوي هو المشاكل والصعوبات ذات النهايات المظلمة الغامضة، الجهل... الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، والانحرافات والفساد الأخلاقي التي لا يمكن التكهن بعواقبها السيئة، أو التي تجر إِلى التعاسة والشقاء... كلّها ظلام.
إِنّ الظلام بذاته مخيف مثير للأوهام والتخيلات، فهجوم الكثير من الحيوانات الخطرة وسطوة اللصوص والمجرمين يقع تحت جنح الظلام، أنّ لكل امرئ ذكرياته عن هذه الحالات، فعند هبوط الظلام تنشط الأوهام وتخرج منها الأشباح المرعبة، فيستولي الخوف والهلع على العامّة من الناس.
الظلام من العدم، والإِنسان يهرب بطبيعته من العدم ويخافه، ولهذا نراه يخاف الظلام.
وإِذا حدثت في هذا الظلام حوادث واقعية مرعبة، كأن يكون الإِنسان مسافراً في البحر، وتحاصره في ليلة ظلماء الأمواج الهائلة والدوامات المائية، فإنّ خوفه من ذلك يكون أضعاف ما لو حدث ذلك بالنهار، لأنّ الإِنسان في مثل هذه الظروف يجد أبواب النجاة مسدودة في وجهه، وهكذا لو كان في ليلة حالكة الظلام يسير في الصحراء فيضل الطريق ويسمع زمجرة الوحوش المفترسة من هنا وهناك وهي تبحث عن فريسة، في مثل هذه اللحظات ينسى الإِنسان كل شيء ولا يعود يتذكر شيئاً سوى نفسه، والنّور الذي يسطع في أعماقه ويجذبه نحو المبدأ قادر على إَزالة ما يعتوره من بلاء وضيق، هذه الحالات تفتح نوافذ على عالم التوحيد ومعرفة الله، لذلك يقول في أمثال هذه الحالات: (تدعونه تضرعاً وخفية).
وتعقدون وأنتم في تلك الحالة عهداً وميثاقاً على أنفسكم، وتقولون: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين).