الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ} (61)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله: {وهو القاهر} لخلقه، {فوق عباده}، قد علاهم، {ويرسل عليكم حفظة} من الملائكة، يعني الكرام الكاتبين يحفظون أعمال بني آدم، {حتى إذا جاء أحدكم الموت} عند منتهى الأجل، {توفته رسلنا}، يعني ملك الموت وحده، عليه السلام، {وهم لا يفرطون}: لا يضيعون ما أمروا به، يعني ملك الموت وحده.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وَهُوَ القاهِرُ": والله الغالب خلقه العالي عليهم بقدرته، لا المقهور من أوثانهم وأصنامهم المذلل المغلوب عليه لذلته. "وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً "وهي ملائكته الذين يتعاقبونكم ليلاً ونهارا، يحفظون أعمالكم ويحصونها، ولا يفرّطون في حفظ ذلك وإحصائه ولا يضيعون.

عن السديّ، قوله: "ويُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً "قال: هي المعقبات من الملائكة، يحفظونه ويحفظون عمله.

عن قتادة، قوله: "وَهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حتى إذَا جاءَ أحَدَكُمْ المَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرّطُونَ" يقول: حفظة يا ابن آدم يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك إذا توفيت ذلك قبضت إلى ربك. "حتى إذا جاءَ أحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرّطونَ": إن ربكم يحفظكم برسل يعقب بينها يرسلهم إليكم بحفظكم، وبحفظ أعمالكم إلى أن يحضركم الموت وينزل بكم أمر الله، فإذا جاء ذلك أحدكم توفاه أملاكنا الموكلون بقبض الأرواح ورسلنا المرسلون به وهم لا يفرّطون في ذلك فيضيعونه.

فإن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت، فكيف قيل: "تَوَفّتْهُ رُسُلُنا" والرسل جملة وهو واحد؟ أو ليس قد قال: "قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ"؟ قيل: جائز أن يكون الله تعالى أعان ملك الموت بأعوان من عنده، فيتولون ذلك بأمر ملك الموت، فيكون «التوفّي» مضافا، وإن كان ذلك من فعل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت، إذ كان فعلهم ما فعلوا من ذلك بأمره كما يضاف قَتْل من قَتَل أعوانُ السلطان وجلد من جلدوه بأمر السلطان إلى السلطان، وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه ولا وَلِيَه بيده. وقد تأول ذلك كذلك جماعة من أهل التأويل. كان ابن عباس يقول: لملك الموت أعوان من الملائكة.

وقد بينا أن معنى التفريط: التضييع، فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوّلون في هذا الموضع.

عن ابن عباس، قوله: "وَهُمْ لا يُفَرّطُونَ" يقول: لا يضيعون.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة} فيه جميع ما يحتاج أهل التوحيد [إليه] لأنه أخبر أنه قاهر لخلقه، وهم مقهورون. ومن البعيد أن يشبه القاهر المقهور بشيء، أو يشبه المقهور القاهر بوجه، أو يكون شريك القاهر في معنى، لأنه لو كان شيء من ذلك لم يكن قاهرا من جميع الوجوه، ولا كان الخلق مقهورا في الوجوه كلها. فإذا كان الله قاهرا بذاته الخلق كله كانت آثار قهره فيهم ظاهرة وأعلام سلطانه فيهم بادية على تعاليه عن الأشباه والأضداد وأنه كما وصف {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]. وقوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} يكون على وجهين: أحدهما: {وهو القاهر} وهو {فوق عباده}. والثاني: على التقديم والتأخير؛ وهو فوق عباده القاهر. ويحتمل قوله: {فوق عباده} بالنصر لهم والمعونة والدفع عنهم كقوله: {يد الله فوق أيديهم} أي بالنصر والمعونة والعظمة والرفعة والجلال ونفاذ السلطان والربوبية. {ويرسل عليكم حفظة} [يحتمل وجهين: أحدهما]: أخبر أنه القاهر فوق عباده وأنه أرسل عليهم الحفظة ليعلموا أن إرسال الحفظة عليهم لا لحاجة له؛ لم يكن قاهرا لأن من وقعت له حاجة صار مقهورا تحت قهر آخر. فالله تعالى أن تمسه حاجة، أو يصيبه [مثل ما يصيب الخلق، بل وإنما أرسلهم عليهم لحاجة الخلق] إما امتحانا منه للحفظة على محافظة أعمال العباد والكتابة عليهم من غير أن تقع له في ذلك حاجة، يمتحنهم بذلك. ولله أن يمتحن عباده بما شاء من أنواع المحن، وإن أكرمهم، ووصفهم بالطاعة في الأحوال كلها بقوله تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6] وغير ذلك من الآيات. والثاني: [يرسل الحفظة] عليهم بمحافظة أعمالهم والكتاب عليهم ليكونوا على حذر في ذلك؛ [وذلك] في الزجر أبلغ وأكثر [نظرا] لأن من علم أن عليه رقيبا في عمله وفعله كان أحذر في ذلك [العمل وأنظر] فيه وأحفظ له ممن لم يكن عليه ذلك، وإن كان يعلم كل مسلم أن الله عالم الغيب، لا يخفى عليه شيء، عالم بما كان منهم، وبما يكون أن يكون، ومتى يكون؟ ثم اختلف في الحفظة ههنا: قال بعضهم: هم الذين قال الله تعالى {وإن عليكم لحافظين} {كراما كاتبين} {يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10 و 11 و 12] يكتبون أعمالهم، ويحفظون عليهم. وقال آخرون: هم الذين يحفظون أنفاس الخلق ويعدون عليهم إلى وقت انقضائها وفنائها، ثم تقبض منه الروح، ويموت. ألا ترى أنه قال على إثره: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون}؟ دل على أن الحفظة ههنا هم الذين سلطوا على حفظ الأنفاس والعد عليهم إلى وقت الموت، والله أعلم...

{وهم لا يفرطون} فيه إخبار عن شدة طاعة الملائكة ربهم، وأن الرأفة لا تأخذهم في ما فيه تأخير أمر الله وتفريطه، لأن من دخل على من في النزع أخذته من الرأفة ما لو ملك حياته لبذل له. فأخبر عز وجل أنهم {لا يفرطون} في ما أمروا، ولا يؤخرونه لتعظيمهم أمر الله وشدة طاعتهم له. وعلى ذلك وصفهم: {غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6] وقال عز وجل: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27] وقال: {لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19 و 20].

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{حَفَظَةً} ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون. وعن أبي حاتم السجستاني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء يلفظ به من فوائد العلم، حتى قال فيه: أنت شبيه الحفظة، تكتب لغط اللفظة: فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب. فإن قلت: الله تعالى غنيّ بعلمه عن كتبة الملائكة، فما فائدتها؟ قلت: فيها لطف للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء. {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه... و {يُفَرّطُونَ} بالتشديد والتخفيف، فالتفريط: التواني والتأخير عن الحدّ، والإفراط مجاوزة الحدّ، أي لا ينقصون مما أمروا به أو لا يزيدون فيه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{القاهر} إن أخذ صفة فعل، أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب فيصح أن يجعل {فوق} ظرفية للجهة؛ لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها العباد من فوقهم، وإن أخذ {القاهر} صفة ذات، بمعنى القدرة والاستيلاء ف {فوق} لا يجوز أن تكون للجهة، وإنما هي لعلو القدر والشأن على حد ما تقول: الياقوت فوق الحديد، {ويرسل عليكم} معناه يبثهم فيكم، و {حفظة} جمع حافظ مثل كاتب وكتبة، والمراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال، وروي أنهم الملائكة الذين قال فيهم النبي عليه السلام: «تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وقاله السدي وقتادة، وقال بعض المفسرين {حفظة} يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله، والأول أظهر.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أخبر بتمام العلم والقدرة، أخبر بغالب سلطنته وعظيم جبروته وأن أفعاله هذه على سبيل القهر لا يستطاع مخالفتها، فلو بالغ أحد في الاجتهاد في أن ينام في غير وقته ما قدر، أو أن يقوم وقت النوم لعجز، أو أن يحيي وقت الموت لم يستطع إلى غير ذلك فقال: {وهو} أي يفعل ذلك والحال أنه وحده بما له من غيب الغيب وحجب الكبرياء {القاهر} وصور ذلك بقوله: {فوق عباده} أي في الإحاطة بالعلم والفعل، أما قهره للعدم فبالتكوين والإيجاد، وأما قهره للوجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى، فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور، والنهار بالليل والليل بالنهار -إلى غير ذلك من ضروب الكائنات وصروف الممكنات {ويرسل} ورجع إلى الخطاب لأنه أصرح فقال: {عليكم} من ملائكته {حفظة} أي يحفظون عليكم كل حركة وسكون لتستحيوا منهم وتخافوا عاقبة كتابتهم. ويقوم عليكم بشهادتهم الحجة على مجاري عاداتكم، وإلا فهو سبحانه غني عنهم، لأنه العالم القادر فيحفظونكم على حسب مراده فيكم {حتى إذا جاء}.

ولما كان تقديم المفعول أخوف قال: {أحدكم الموت} أي الذي لا محيد له عنه ولا محيص {توفته} أي أخذت روحه كاملة {رسلنا} من ملك الموت وأعوانه على ما لهم من العظمة بالإضافة إلينا {وهم لا يفرطون} في نفس واحد ولا ما دونه ولا ما فوقه بالتواني عنه ليتقدم ذلك عن وقته أو يتأخر.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم إنه تعالى بين ما في هذه الآية من الإجمال في أمر الموت والرجوع إلى الله للحساب والجزاء مبتدأ ذلك بذكر قهره لعباده واستعلائه عليهم وإرساله الحفظة لإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم فقال {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة}.

بينا معنى الجملة الأولى بنصها في تفسير الآية الثامنة عشرة من هذه السورة وكلمة فوق تستعمل- كما قال الراغب- في المكان والزمان والجسم والعدد والمنزلة، وذلك أضرب ضرب لها الراغب الأمثلة، ففوق العلوية يقابله تحت، وفوق الصعود يقابله في الحدود الأسفل، وفوق العدد يقابله القليل أو الأقل منه، وفوق الحجم يقابله الصغير أو الأصغر منه، وفوق المنزلة يكون بمعنى الفضيلة كقوله تعالى: {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} [الزخرف: 32] {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة} [البقرة: 212] وبمعنى القهر والغلبة كقوله تعالى حكاية عن فرعون {وإنا فوقهم قاهرون} [الأعراف: 127] وبه فسروا هذه وما قبلها.

وأما إرسال الحفظة على الناس فمعناه إرسالهم مراقبين عليهم من حيث لا يشعرون، محصين لأعمالهم بكتابتها وحفظها في الصحف التي تنشر يوم الحساب، وهي المرادة بقوله تعالى: {وإذا الصحف نشرت} [التكوير:10] وهؤلاء الحفظة هم الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10- 12] ولم يرد في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بيان تفصيلي لصفة هذه الكتابة فنؤمن بها كما نؤمن بكتابة الله تعالى لمقادير السموات والأرض ولا نتحكم فيها بآرائنا، وأمثل ما أولت به أنها عبارة عن تأثير الأعمال في النفس وأنه يكون بفعل الملائكة.

وقيل إن الحفظة من الملائكة غير الكاتبين للأعمال وهم المعقبات في قوله تعالى من سورة الرعد: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد:12] قيل إنهم ملائكة يحفظونه من الجن والشياطين وقيل من كل ضرر يكون عرضة له لم يكن مقدرا أن يصيبه فإذا جاء القدر تخلوا عنه، ولكن لم يصح في ذلك شيء يعتد به، وفي هذه الآية أقوال أخرى لأهل التفسير المأثور منها أنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنها نزلت حين أراد أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قتله على أن يلهيه الثاني بالحديث فيقتله الأول فلما وضع يده على السيف يبست على قائمته فلم يستطع سله. ومنها أنها في الكرام الكاتبين. ومنها أنها في الأمراء والملوك الذين يتخذون الحرس والجلاوزة يحفظونهم ممن يريد قتلهم.

روى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الآية: الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وشماله يحفظونه من القتل، ألم تسمع أن الله تعالى يقول: {وإذا أراد الله بقوم سوءا} [الرعد: 11] لم يغن الحرس عنه شيئا وهذا المعنى هو الذي يناسب قوله تعالى قبل هذه الآية {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات} [الرعد:10، 11] الآية- وسيأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء الله تعالى.

ليس عندنا من الأحاديث الصحاح في هذه المسألة إلا حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» وروي بلفظ « والملائكة يتعاقبون فيكم» بواو وبغير واو لكن لم يرد ذلك في تفسير آية الرعد. فإذا كان هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكاتبين فلا محل لاختلاف العلماء في تجددهم وتعاقبهم.

وذكروا من الحكمة في كتابة الأعمال وحفظها على العاملين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات، وأبعث له على التزام الأعمال الصالحات، فإن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله عز وجل والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء منه سبحانه والمراقبة له، يغلب عليهم الغرور بالكرم الإلهي والرجاء في مغفرته ورحمته تعالى فلا يكون لديهم من خشيته والحياء منه ما يزجرهم عن معصيته كما يزجرهم توقع الفضيحة في موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم. وزاد الرازي احتمال أن تكون فائدتها أن توزن تلك الصحف لأن وزنها ممكن ووزن الأعمال غير ممكن. كذا قال وهو احتمال ضعيف بل لا قيمة له لأنه مبني على تشبيه وزن الله للأمور المعنوية بوزن البشر للأثقال الجسمية.

أما بيان هذه الحكمة على الطريقة التي جرينا عليها في بيان حكمة مقادير الخلق فتعلم مما مر هنالك، وأما على طريقة من يقولون إن المراد بكتابة الأعمال حفظ صورها وآثارها في النفس فهي أنها تكون المظهر الأتم الأجلى لحجة الله البالغة – فإذا وضع كتاب كل أحد يوم الحساب ونشرت صحفه المطوية في سريرة نفسه تعرض عليه أعماله فيها بصورها ومعانيها فتتمثل لذاكرته ولحسه الظاهر والباطن كما عملها في الدنيا لا يفوته شيء من صفاتها الحسية ولا المعنوية – كاللذة والألم – فيكون حسيبا على نفسه، وعلى عين اليقين من عدل الله وفضله، {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} [الإسراء: 13، 14] {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 47].

{حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61)} قرأ حمزة « توفاه» بألف ممالة بعد الفاء، والباقون « توفته» بالتاء بعد الفاء ورسمهما في مصحف الإمام واحد هكذا « يوفيه» لأن الألف رسمت ياء كأصلها والمعنى أنه تعالى يرسل عليكم حفظه من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم حتى إذا جاء أحدكم الموت وانتهى عمله توفته أي قبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذي قال الله فيه {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} [السجدة: 11] فالأرواح أصناف كثيرة لكل منها مستقر في البرزخ يليق به، وللموت أصناف كثيرة لكل منها سنن ونظام في الحياة خاص به، فقبض الألوف من الأرواح في كل لحظه ووضعها في المواضع اللائقة بها عمل عظيم واسع النطاق يقوم بإدارته ونظامه رسل كثيرون. وكل عمل منظم لا بد أن تكون له جهة وحدة هي مكان الرياسة والنظام منه.

روى ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه سئل عن ملك الموت أهو وحده الذي يقبض الأرواح؟ قال هو الذي يلي أمر الأرواح وله أعوان على ذلك – وقرأ الآية ثم قال – غير أن ملك الموت هو الرئيس. الخ وروي عن إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان ثم يدفعونها إلى ملك الموت، فكل منهما متوف، وعن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه ويدفعها إلى الأعوان فإن كان الميت مؤمنا دفعها إلى ملائكة الرحمة وإن كان كافرا دفعها إلى ملائكة العذاب أي وهم يذهبون بالأرواح إلى حيث يوجههم بأمر الله تعالى.

وقد أسند التوفي إلى الله تعالى في آية الزمر التي ذكرناها في أول تفسير الآية التي قبل هذه إما على أنه هو الآمر لملك الموت ولأعوانه جميعا بذلك – وهو ما صرحوا به – وإما على أنه هو الفاعل الحقيقي والمسخر لملك الموت وأعوانه، فهم بأمره يعملون، وبتسخيره يتصرفون، لا يعتدون في تنفيذ إرادته ولا يفرطون، والتفريط التقصير بنحو التواني والتأخير (وتقدم تحقيق معناه في تفسير 38 {وما فرطنا في الكتاب من شيء} ) وقرأ الأعرج يفرطون من الإفراط المقابل للتفريط أي لا يتجاوزون ولا يعتدون فيه، ومعناه صحيح ولكن الحاجة إلى نفي الإفراط غير قوية، والآية تدل على عصمة الملائكة كما قال المفسرون.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على جملة {وهو الذي يتوفَّاكم} [الأنعام: 60]، وتقدّم تفسير نظيره آنفاً. والمناسبة هنا أنّ النوم والموت خلقهما الله فغلبا شِدّة الإنسان كيفما بلغت فبيَّن عقب ذكرهما أنّ الله هو القادر الغالب دون الأصنام. فالنوم قهر، لأنّ الإنسان قد يريد أن لا ينام فيغلبه النوم، والموت قهر وهو أظهر، ومن الكلم الحق: سبحان من قهر العباد بالموت.

{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}.

{ويرسل} عطف على {القاهر}، فيعتبر المسند إليه مقدّماً على الخبر الفعلي، فيدلّ على التخصيص أيضاً بقرينة المقام، أي هو الذي يرسل عليكم حفظة دون غيره. والقصر هنا حقيقي، فلا يستدعي ردّ اعتقاد مُخالف. والمقصود الإعلام بهذا الخبر الحقّ ليحذر السامعون من ارتكاب المعاصي.

ومعنى (على) في قوله {عليكم} الاستعلاء المجازي، أي إرسال قهر وإلزام، كقوله: {بعثنا عليكم عباداً لنا} [الإسراء: 5]، لأنّ سياق الكلام خطاب للمشركين كما علمتَ، ومثله قوله تعالى: {كلاّ بل تكذّبون بالدِّين وإنّ عليكم لحافظين} [الانفطار: 9، 10].

و {عليكم} متعلِّق بِ {يرسل} فعلم، أنّ المراد بحفظ الحفظة الإحصاء والضبط من قولهم: حفظتُ عليه فعله كذا. وهو ضدّ نسيَ. ومنه قوله تعالى: {وعندنا كتاب حفيظ} [ق: 4]. وليس هو من حفظ الرعاية والتعهّد مثل قوله تعالى: {حافظات للغيب بما حفظ الله} [النساء: 34].

فالحفظة ملائكة وظيفتهم إحصاء أعمال العباد من خير وشرّ. وورد في الحديث الصحيح: « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث.

وقوله: {إذا جاء أحدَكم الموت} غاية لما دلّ عليه اسم الحفظة من معنى الإحصاء، أي فينتهي الإحصاء بالموت، فإذا جاء الوقت الذي ينتهي إليه أجل الحياة توفَّاه الملائكة المرسلون لقبض الأرواح.

فقوله: {رسلُنا} في قوّة النكرة لأنّ المضاف مشتقّ فهو بمعنى اسم المفعول فلا تفيده الإضافة تعريفاً، ولذلك فالمراد من الرسل التي تتوفَّى رسلٌ غيرُ الحفظة المرسلين على العباد، بناء على الغالب في مجيء نكرة عقب نكرة أنّ الثانية غيرُ الأولى. وظاهر قوله: {توفّته رُسُلنا} أنّ عدداً من الملائكة يتولّى توفّي الواحد من الناس. وفي الآية الأخرى {قل يَتوفَّاكم مَلَك الموت الذي وُكِّل بكم} [السجدة: 11]، وسمِّي في الآثار عزرائيلَ، ونقل عن ابن عباس: أنّ لِملك الموت أعواناً. فالجمع بين الآيتين ظاهر.

وعُلِّق فعل التوفِّي بضمير {أحدكم} الذي هو في معنى الذات. والمقصود تعليق الفعل بحال من أحوال أحدكم المناسب للتَّوفي، وهو الحياة، أي توفَّت حياتَه وختمتْها، وذلك بقبض روحه.

.. وجملة: {وهم لا يفرّطون} حال. والتفريط: التقصير في العمل والإضاعة في الذوات. والمعنى أنَّهم لا يتركون أحداً قد تمّ أجله ولا يؤخّرون توفّيَه.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

و (العباد) هم المقهورون لله فيما لا اختيار لهم فيه، وهم أيضا المنقادون لحكم الله فيما لهم فيه اختيار؛ لأن الإنسان مقهور في بعض الأمور ولا تصرف له فيها: لا تصرف له في نفسه، ولا تصرف له في نبضات قلبه، ولا تصرف له في حركة المعدة، ولا تصرف له في حركة الأمعاء، ولا تصرف له في حركة الحالبين، ولا تصرف له في حركة الكلية، وكلها مسائل تشمل المؤمن و الكافر، والكل مقهور فيها. إن من رحمة الله أننا مقهورون فيها ولا رأي لنا؛ لأنه لو كان لنا رأي في مثل هذه الأمور لكان لنا أن نسأل: كيف ننظم عملية تنفسنا في أثناء النوم؟ إذن فمن رحمة الله أن منع عنا الاختيار في بعض الأمور التي تمس حياتنا. ومن رحمة الله أن كلا منا مقهور فيها، فمن يستطيع أن يقول لمعدته: اهضمي الطعام؟ ومن يستطيع أن يأمر الكلي بالعمل؟!!. إذن فكل أمر مقهور فيه الإنسان، هو فيه منقاد لله ولا اختيار له. أما الأمر الذي لك فيه اختيار فهو مناط التكليف. ولذلك لا يقول لك المنهج: (افعل) إلا أنت صالح ألا تفعل، ولا يقول لك (لا تفعل) إلا وأنت صالح أن تفعل. إذن الأمور الاختيارية هي التي وردت فيها (افعل) و (لا تفعل). وهي الأمور التي فيها التكليف. ومن يطع ربنا في منهج التكليف يصبح وكأنه مقهور للحكم، ويكون ممن يسميهم الله (عبادا)، فكأنهم تنازلوا عن اختيارهم في الأحكام التكليفية، وقالوا: يا رب لن نفعل إلا ما يريده منهجك. وكل منهم ينفذ حكم الله فيما له فيه اختيار ألا ينفذه. أما العبيد فهم من يتمردون على التكليف، فالمؤمنون بالله هم عباده. ولذلك يقول الحق: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا. (53)} (سورة الزمر)